الاثنين، 16 مارس 2015

يوميات الحرب فى جنوب كردفان: (قراءة في دفتر أحوال قوات القطاع للعام 2014)!

مطلع العام الفائت وتحديداً في الرابع من يناير منه وذاتَ أصيل شاتي لا يخلو من رطوبة وغمام يبدو على عجلةٍ من أمره في مناطق المنصورة المقلَّم وجبل تومي؛ في تلك الأصقاع الوعرة من جبال النوبة، وفى أطار محاولة على ما يبدو من جانب قطاع الشمال لإجراء عملية استطلاع تجاه معسكرات وتحركات الجيش السوداني، دفع القطاع بكتيبة مشاة عبر 8 عربات عسكرية، عسى ولعل أن تنجح الكتيبة في طمأنة القطاع بأنّ الجيش السوداني يبعد قليلاً عن أماكن تمركز قوات القطاع وأنه لن يباغتهم كما جرى الحال مؤخراً بضربة مفاجئة وصاعقة!
ولأنّ نتيجة الاستطلاع على ما يبدو لم تكن مريحة ومطمئِنة للقطاع فقد أضطر القطاع وبعد 6 أيام من ذلك لمهاجمة معسكر للجيش السوداني بمنطقة (دلاّمي) ولكن لم يحقق الهجوم هدفه، أقصى ما حدث أن قوات القطاع تحملت خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
ولأن القلق قد بدأ يعصف بالفعل بقادة جيش القطاع ويزداد ضراوة فقد قرروا في 25 يناير، أي بعد ثلاثة أسابيع من مهمة الاستطلاع تلك، مهاجمة منطقة تُدعى (كيقا الجبل)، وحين فشل الهجوم أيضاً وتصاعدت الخسائر فقد قرروا -وعلى عجل- تخريج دفعة جديدة من ضباط الجيش الشعبي تقرر تخريجها بصفة مفاجئة في 28 يناير بعد أن تلقوا تدريبات مكثفة في معسكر يطلقون عليه (طالب الله)!
تلك كانت في الواقع لمحات للحالة المزاجية المتقلبة غير المستقرة لقوات قطاع الشمال، بعد أن جثم الجيش السوداني على صدرها وحال بينها وبين التنفس الطبيعي. وهو مشهد ظل يتكرر بإستمرار منذ أن بدأ الجيش السوداني قبل نحوٍ من عام ونيف مشروعه الاستراتيجي الضخم المعروف بالصيف الحاسم، حيث لم يذق قادة القطاع وجنوده طعماً للنوم والراحة ولم يدعهم القلق وشأنهم ولم تبارحهم غوائل المفاجآت!
أما في يومية الدعم المتدفق للقطاع من دولة جنوب السودان، فقد حفل العام المنصرم 2014م بالعديد من الوقائع والأحداث المؤكدة على تدفق هذا الدعم من ولايات دولة الجنوب المختلفة قريبها وبعيدها؛ ففي 4/3/2014 على سبيل المثال فإن السكان المحليين على إمتداد الحدود، وداخل مناطق الجبال رأوا شاحنة مميزة كانت قادمة لتوها من ولاية الوحدة وقد أفرغت -على مرأى ومسمع السكان- شحنتها من الذخائر في منطقة بحيرة الأبيض.
صناديق الذخيرة التي تحمل علامات دولة جنوب السودان، والملابس العسكرية جرى إنزالها من الشاحنة ووضعها في مخازن مصنوعة من الزنك والأخشاب المحلية، وفيما يبدو كانت تلك واحدة من أهم مراحل الإعداد للهجوم على منطقة كيقا الجبل.
ولأن هجمات قوات القطاع تستلزم توفر الأغذية والمعينات التي تعين الجند على القتال فإن اليوم التالي، الخامس من مارس، عقب تفريغ الشحنة القادمة من ولاية الوحدة جرت فيه وقائع الهجوم على مناطق رشاد والعباسية لتوفير المواشي التي عادة ما تشكل الغذاء الرئيسي للجند! ومضت يوميات الحرب في ظل هذه التذبذب في المواقف والأحداث وإتساع رقعة المخاوف مع إزدياد هواجس قادة القطاع على ذات هذا النسق، ففي كل يوم أو يومين تضطر قيادة القطاع لإخراج دورية استطلاع ما تلبث هذه إلاّ وتعود بمخاوف أكبر وذعر أشد مضاضة.
مضت الأمور على هذا النحو لما يزيد عن الخمسة أشهر حتى أطلق المتمرد عبد العزيز الحلو مناشدته الشهيرة التي صارت قصة على كل لسان في ميدان القتال، ناشد فيها ساعده الأيمن الذي يحمل رتبة العميد في الجيش الشعبي (إستيفانوس ناصر حميدة) بضرورة الإسراع بإحضار شحنة أسلحة خاصة وذخائر من بينها مضادات طيران!
الحلو ولشدة ذعره وقلقه قال في مناشدته تلك لإستيفانوس إنه سوف ينتظر هذه الشحنة في منطقة (فيانق) وهي منطقة قريبة من منطقة (فارينق) الحدودية المعروفة بين جبال النوبة ودولة جنوب السودان. قبل وصول الشحنة وفي يوم 5/8/2014م قامت قوة من الجيش الشعبي قدَّرها شهود عيان بنحو 2 كتيبة ومعها 45 عربة لاندكروزر تقريباً بمهاجمة مناطق الأزرق، وتقلي وسرف نيله. يوميات القطاع أطلقت على القوة مسمى (الفجر الجديد)!
وكالعادة أيضاً تشير وقائع اليوميات إلى أن قوات الفجر الجديد هذه قامت بنهب حوالي 80 رأس من الماشية في منطقة (خور الدليب) وأعداد من الضأن بمنطقة (اليوي) و 170 رأس من منطقة الكرقل! ولأنّ المتمرد الحلو ما يزال في حال القلق الذي يسيطر تماماً عليه ولم تصله شحنة السلاح التي ناشد فيها مساعده استيفانوس، فقد اضطر إلى الدفع بأحد معاونيه في الأول من ديسمبر 2014 إلى القاهرة.
تعليمات الحلو كانت حادة وقاطعة (استنفار كل من بوسعه حمل السلاح)! ثم أردف الحلو (والطيران على الفور إلى الميدان)! ثم أضاف الحلو وسطور اليوميات تسجل إرتعاشاته الواضحة وحركة عينيه المتوترين "أنا سأذهب إلى ألمانيا وهولندا، وإسرائيل" لأقوم بذات الشيء!
على الجانب الآخر وبالتوازي مع تحركات الحلو، كان اللواء (جقود مكوار)، أحد أشهر قادة القطاع يقوم بمهمة عاجلة من نوع فريد. (جقود) كان عائداً من كمبالا بعد أن أنجز مشتريات أسلحة خفيفة أوصلها إلى جوبا، حوالي (3 ألف قطعة). تنفس جقود الصعداء حين نجح أخيراً في وضع شحنة الأسلحة الخفيفة هذه (رشاشات) في مخزن بدا شبه مهجور داخل معسكر (اللوري) استعداداً للدفع به إلى جنوب كردفان في اقرب وقت ممكن.
وبالعودة أيضاً إلى (الحالة النفسية) المتصاعدة لدى المتمرد الحلو وهو في متاهته ومخاوفه تلك، فقد اتجه الرجل وجهة أخرى عاجلة أيضاً حيث أصدر تعليمات غاضبة إلى معاونه العميد كوكو الذي يتولى قوة يطلق عليها (موبايل فورس) بنهب الكمائن والمزارع وزراعة أكبر مساحة من الأرض بالألغام ووضع متاريس وموانع تحول دون تقدم الجيش السوداني!
كان واضحاً أن الحلو يستشعر وبشدة هزيمة ماحقة، وأن الجيش السوداني بات بالنسبة له بُعبعاً لا مجال  للتخلص منه. تعليمات الحلو الخاصة بزرع الألغام ووضع المتاريس أمام تقدم قوات الجيش الشعبي حملت تاريخ الثالث من سبتمبر 2014 في دفتر أحوال القطاع، وكانت الوقائع التي تلتها تعكس حقيقة الاضطراب الذي يبدو سمة عامة للجيش الشعبي، فقد سارعت قوة تقدر بحوالي سرية من المشاة لاستهداف الطريق القومي لمناطق الدلنج كادوقلي، كما تم قصف منطقة (دمبا) قرب كادوقلي بالمدافع الثقيلة عيار 130 والتي عادة ما يستخدمها القطاع لأغراض الفرقعة الإعلامية وتخويف المدنيين ودفعهم للفرار!
ثم جرى تعيين قائد متخصص للدفاع عن مناطق جبال الكواليب وهيبان بمدفعية ثقيلة، بجانب تعيين كتيبة مشاة لمساندتها ولكن تبين أن كتيبة المشاة هذه رافضة للقتال لعدم استلام أفرادها لرواتبهم، غير أن القيادة وعدتهم بصرفها بعد العودة. وكأن القيادة هنا تدرك ألاّ عودة!
نظراً لأنّ كل هذه التحركات كانت تجري بأصابع مرتجفة وأقدام مضطربة فإن القصف غير المنظم كان هو السائد، وهو ما تسبب في استشهاد 3 من الجيش السوداني في مناطق (ليري وعبري) حين تم قذف حوالي 21 دانة على المنطقة.
وتفضح سطور دفتر أحوال القطاع في 15/9/2014 عن عودة عبد العزيز الحلو من جديد لتصرفاته المعهودة في إطلاق التعليمات الغاضبة، فقد طلب من اللواء عزت كوكو استنفار أبناء جبال الكواليب للدفاع عن مناطقهم! وعلى ما في هذه التعليمات من مفارقة كون الحلو يطلب من أبناء المنطقة الدفاع عنها، فإن الأمر بدا محيراً للواء عزت ولكنه على أية حال أجاب قائده بالإيجاب!
عاد الحلو مجدداً بعد ذلك لإصدار تعليمات وصفتها اليوميات بأنها (شديدة الصرامة) وُجِّهت هذه المرة إلى نميري مراد الذي يتولى قيادة قطاع هيبان. تعليمات الحلو كانت تدعو لقيادة (حملة واسعة النطاق) لتجنيد الأطفال في مناطق الكواليب، وبالفعل -كما تشير اليوميات- تم جمع عدد مقدر بناء على تعليمات الحلو من الأطفال في مناطق هيبان وتم الشروع في إجراءات التجنيد والتدريب. من جديد يعود الحلو إلى هواجسه الخاصة ومخاوفه التي لم يعد لها من كابح فيعاود الرجل تشديد تعليماته وإرسالها على وجه السرعة في الخامس من أكتوبر 201 هذه المرة إلى جوبا.
الحلو أرسل إشارة عاجلة جداً يستنفر فيها كل أبناء النوبة في جوبا للإنخراط في القتال. الإشارة تؤكد على ألاّ استثناءات ولا أعذار. حصيلة الاستنفار رغم كل ذلك لم تتجاوز الـ230 فرداً! جرت عملية نقلهم بطائرة عسكرية خاصة إلى معسكر (إيدا) ثم جبال النوبة!
وحال فراغ الحلو من التأكد من وصول المستنفرين من جوبا سارع بتوجيه كل من (يونان موسى) و (صديق الجقر) بالإسراع لمقابلة رئيس أركان جيش دولة الجنوب (بول مالونق) لاستلام 15عربة لاندكروزر و دانات لمدافع الكاتيوشا و آر بي جي. كما أنّ عليهم أن يبلِغا كل من العُمداء (كجور النوبة) و (يعقوب عثمان) وآخرين للعودة فوراً إلى ميادين القتال. وفي هذه الأثناء قرر الحلو قصف مدينة كادوقلي وبالفعل في 20/10/2014 تم قصف مدينة كادوقلي بـ3 صواريخ من راجمة عيار 122 ملم سقطت جراءها امرأتين وجُرِحَت أخرى، ثم تم قصف منطقة العتمور في ذات التوقيت.
وهكذا، كانت دفاتر أحوال قوات القطاع طوال العام المنصرم 2014 ذاخرة بالأهوال والمآسي والمفاجآت، ففي كل التحركات والنداءات التي رأيناها كان مشروع الجيش  السوداني (الصيف الحاسم) هو الضاغط الأوحد على ذهن وأعصاب قادة الجيش الشعبي. كانت قيادة القطاع قد تحولت من الهجوم المطلق إلى وضع (الدفاع النسبي) مخافة اتساع رقعة المواجهة وخسارة نقاط الارتكاز الأساسية وذات الأبعاد الإستراتيجية.
كان الحلو وفقاً لسطور دفتر أحوال جيشه، الأكثر تأثراً بالأحداث والأكثر خوفاً والأشد ألماً حتى وصل به الأمر في أواخر العام ذاك لمطالبة جيش دولة الجنوب بإسترداد أسلحة قال إنّ الجيش الجنوبي استعارها منهم لأغراض الصراع الجنوبي الجنوبي! ترى، كيف هو الآن حال الحلو ورفاقه وقد خفتَ صوتهم وأضاعوا وجهتهم وفقدوا تماماً زمام المبادأة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق