الخميس، 27 أغسطس 2015

التقارب المُحتمل

مرة أخرى تستظل الحالة السياسية السودانية بأجواء إثيوبيا الماطرة، وتمضي الخرطوم في ذات الأجواء الخريفية، يرش الإمام الصادق المهدي الماء على زهرات التفاوض في أديس أبابا لعلها تفرهد، ويضخ الرئيس البشير دماء جديدة في شرايين الحوار الوطني لتنعش الآمال، ورغم الخلاف الظاهر، إلا أن ثمة تقاربا يستعصي على الإمساك، لكنه ممكن الحدوث، ويدفع خلفه مجلس الأمن والسلم الأفريقي بقوة، ومع ذلك وضعت كل الهواتف نغمة الحل الشامل عليها..
في البدء احتجت الحكومة على لقاء مجلس السلم الأفريقي بوصفه تجاوزاً لكل الأعراف والممارسات، وردت الجبهة الثورية وقوى المعارضة بالمثل معربة عن اتجاهها لطرح حوار بديل، لكن ذلك التصعيد لم يقض على آمال التوافق الممكن والمنتظر. من الأول بدا أن هنالك تعارضا في المواقف، عزاه المراقبون إلى أسباب نفسية أكثر من كونها موانع حقيقية، سيما وأن هنالك اتفاقا مبدئيا يركز بالأساس على طرح قضايا التفاوض والحوار كل في طاولة دون شروط مسبقة والتعامل مها بشكل جاد.
وبالرغم من اختلاف أجندة التفاوض عن أجندة الحوار، إلا أن جمع القضايا بالتزامن لم يكن مستحيلاً وإن كانت هنالك صعوبات فنية تعترضه.. ابتداءً فقد جرت محاولة لجمع مفاوضات المنطقتين ودارفور في مسارين متزامنين، وفي مكان واحد، وتعثر الأمر من غير اتفاق، بعد ذلك تصاعد خيار اللقاء التحضيري، والذي رفعته قوى المعارضة بالخارج كمطلب ضروري وملح، والغرض منه بالطبع كان استيعاب الحركات في حوار الداخل، كان ذلك في مارس الماضي، لكنها لم تفض أيضاً إلى خطوة عملية، وانتهى الحال باستعادة أمبيكي لدوره المحوري، ومهمته المصيرية، كمخلص للسودانيين من عذاباتهم، ورغم انتهاء أمد تفويضه إلا أن هنالك محاولات للتجديد له، أمبيكي نفسه بات في مواجهة كابوس عصي على التدجين، وهو الخلاف المزمن في تحديد علاقة التفاوض بالحوار، تلك المعضلة التي تتسع في أوان الجلوس أكثر من التفاصيل التي لم يعد يختبئ فيها الشيطان، على ما كان الحال في السابق.
هنالك عقدة ليس بالإمكان وضع المنشار عليها الآن، وهي ظهور الجبهة الثورية وقوى نداء السودانية وذوبان الحركات المسلحة في أعماقها، حتى أنها أضحت تتحدث بلسان واحد مبين، هنا لم تعد قضايا التفاوض محصورة في دارفور والمنطقتين، وإنما برز الحل الشامل كمطلب ملح لجماعة تضم في جعبتها رموز المعارضة التقليدية باستثناء محدود.. وتجدر الإشارة هنا إلى الإمام الصادق المهدي وقوى المعارضة بالداخل، فيما يلوح بين الحين والآخر كرت الحوار الوطني الذي يرفض أن ينتقل من الخرطوم تماماً، وقد أناخ بعيره في قاعة الصداقة، ويريد أن يتسم بحالة كونه صناعة سودانية خالصة.
المؤتمر الشعبي هو الأكثر نشاطاً ورسوخاً في مائدة الحوار بالداخل وهو صاحب الصوت الأعلى المعبر حتى عن خلجات المؤتمر الوطني وربما العكس صحيح، هنا تصطدم رغبتا الترابي والإمام الصادق في منطقة تنازع محاطة بالأشواك، كل طرف يحاول أن يجتذب الآخر نحوه، وفي حالة فشلهما، يتخلصان من الحبل ليسقط كل واحد منهما في مكانه، فيما تنشط الحكومة كطرف رئيس، وترغب صراحة في أن تكتفي الحركات بمائدة التفاوض لوحدها، والتي مضت في عدة جولات، بجانب أنها محكومة باتفاق سابق ودول راعية، لكن المهدي وتجمع قوى المعارضة هو جزء من تلك المائدة الآن وليس من السهولة فك حالة الارتباط بينهم لفرز المطالب، والاستعصام بالحلول القومية.
في ظل هذا الاحتقان، هنالك طريق ثالث يخبو ويرنو، تدفع نحوه بعض الأطراف السودانية بدعم من الاتحاد الافريقي، ذلك الطريق يضع في اعتباره أجندة التفاوض، والتحديق قي المناطق المتأثرة بالحرب، ومسببات الصراع، وقضايا الحوار التي ترتبط إلى حد ما بهوامش التفاوض، هنا يمكن القول إن قرار الرئيس البشير بإيقاف الحرب هو لبنة في مدماك العلاقة الجديدة بين الطرفين، فقد وجد القرار ترحيباً من الحركات المسلحة، وإن كان خجولاً، إلا أنه يصعب إخفاؤه، الطريق الثالث الذي يحتاج إلى كاسحة ألغام يحاول أن يوفق في الأماكن بعيد أن تقاربت الرؤى، لتنتفي الدوحة كمحطة نهائية، والتي كانت ترعى سلام دارفور بعيد أن ركلتها الحركات، وتصبح هنالك الخرطوم وأديس أبابا، خصوصاً وقد انتقلت الدوحة نفسها في ملفات أمين حسن عمر عبر الطائرة الإثيوبية، وهي تحاول أن تستأنف ما انقطع هنالك في الجزيرة البترولية..
إذن.. ينحصر تحرير الخلاف في قضيتي التزامن والتضمين، التزامن بين انعقاد جولات التفاوض وجلسات الحوار الوطني عبر لجان فرعية تعمل بالتنسيق. والتضمين يركز على دمج ملفات التفاوض في رحابة ملفات الحوار، ليرتقي الأمر بصورة الحل الشامل المأمولة، ولكن ذلك الطريق في أوله، ولا تزال المناوشات الإعلامية محتدمة، فكيف سيكون الحال في مقبل الأيام؟ بالطبع يصعب التكهن بذلك، ولكن لابد أن ما جرى في دولة الجنوب من توافق تاريخي تحت رعاية وضغوط دولية، هو في واقع الأمر عبرة ورسالة لا تخطئ بريدها المفتوح على الأطراف السودانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق