الاثنين، 25 يوليو 2016

بعض دروس التجربة السودانية

قبل أن تكمل عام استقلالها الخامس، وقعت دولة جنوب السودان في حبائل صراع أهلي ضروس. غرائب هذا الفشل السريع تبدو عصية على الحصر؛ لكن أكثرها لفتا للانتباه، أن «أبطال» هذا الصراع هم رئيس الدولة سلفاكير ميارديت ونائبه ريك
مشار وأنصارهما، وهم أنفسهم الذين تزعموا مشهد «الكفاح» لأجل الانفصال عن السودان الأم، بذريعة التحرر تحت عنوان التباين الديني والعرقي بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي.
المعني هنا أن أهم أسباب الصراع الداخلي العاجل بين أبناء الملة الجنوبية الواحدة جدلا، تنفي صحة ذريعة الانفصال من الأصل، وتعزز منطق القائلين بأنه حتى لو كان هناك تغول من الشماليين، لكان الأجدى هو التكاتف بين كل السودانيين لأجل دولة كل مواطنيها.
وضمن الهامات هذه التجربة المريرة، رجاحة عقل الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية، حين أقروا الالتزام بخرائط الحدود الموروثة عن أزمنة الاستعمار. فرغم انحدار بعض الأفارقة إلى هاوية المنازعات والاشتباكات الداخلية والخارجية، التي أنتجتها هذه الخرائط، إلا أن هذا الواقع يظل أهون بكثير من الأضرار التي كانت ستنجم عن نشوء دول وكيانات سياسية بعدد ما تزخر به القارة من قبائل وشيع وطوائف ولغات ولهجات محلية تعد بالمئات.
القصد أن زعماء بواكير عهد الاستقلال أخذوا بأهون الشرور. والى حد كبير مالت القوى الدولية الفاعلة خارج المجال الأفريقي إلى هذا الخيار، وهي التي كانت قد ساهمت جوهريا في صياغته وصناعته طبقا لمصالحها ونياتها الخبيثة.
هذه التعميمات تؤشر إلى أن أفارقة اليوم وسواهم من الذين عالجوا قضية انفصال جنوب السودان بقدر من التسامح أو التواطؤ، انما أسسوا للمروق على مألوف نهج الآباء الرامي لاستقرار الحدود الأفريقية. فبين يدي هذه الحالة، وجدنا موافقة أفريقية مريبة وسرورا دوليا لاسيما في عالم الغرب إزاء عملية جراحية، ستفضي إلى نشوء دولة جديدة تغير لوجستية شمال شرق القارة بشكل فارق. عملية تثير السؤال عما إذا كان الأفارقة بصدد تحول نوعي سوف يصرفهم عن موقفهم تجاه حدود ما بعد الاستقلال؟. ولا نحسب أن نذر هذا التحول تعود إلى غيرة أو طهرية أخلاقية وسياسية وحقوقية تجاه أوضاع أهل جنوب السودان.فلو كان الأمر كذلك، لكان الصوماليون البؤساء الذين تصدعت دولتهم إلى ما دون عصر الجاهلية القبلية تحت أعين الكافة، أولي بالرعاية والعطف والبحث عن حلول جذرية.
في إطار هذه المعالجة المستفزة، قد نجد لغير الأفارقة من أصحاب المصالح الدولية المتربصين بثروات جنوب السودان وبإعادة تقسيم ما سبق أن قسمته خريطة سايكس بيكو من الوطن العربي عذرا، ولكن كيف نفسر أو نبرر للأفارقة موقفهم من سابقة تنذرهم بالتشظي والتشرذم إذا ما جرت محاكاتها والتشبه بها داخل القارة؟.
رب مجادل هنا بأن الانقسام درء عن السودان مخاطر أكبر؛ شاهدنا بعض تجلياتها إبان سنوات الحرب بين الشمال والجنوب. وهذا مردود عليه بأن الحل الانشطاري الإقليمي ليس هو، ولم يثبت أنه، أنجع الحلول لتسوية التدافعات الداخلية. وسبق للأفارقة أن لفظوا حلولا من هذا القبيل في نماذج ساخنة أخرى (اقليم بيافرا في نيجيريا قبل خمسين عاما مثلا).
بعد فرحتهم بالعلم والنشيد الوطني لم يهنأ السودانيون الجنوبيون بوعود الأمن والرخاء. لقد انضموا إلى عشرات الدول التي لم تغادر شعوبها دروب الفقر والجهل والمرض والاستتباع للمستعمرين القدامى.
حين آنسنا من الجنوبيين تصميمهم علي الانفصال راودتنا أسئلة، لم نجد لها إجابات شافية، من قبيل كيف ستتعامل الدولة الوليدة مع تبعات وجود أربعة ملايين جنوبي مقيمين بمصالح حياتية مستقرة في الشمال، علما بأن الخرطوم أعلنت انهم سيعاملون بعد الانفصال كأجانب؟. وكيف سيعالج الجنوبيون عوارض الاختلافات الاجتماعية داخل اقليمهم، الذي يضم خليطا من أقوام بينهم مشاحنات عميقة ؟!. وماذا عن مصائر الناس في دولة ذات اقتصاد بدائي عاجز عن استيعاب العائدات النفطية والمساعدات الخارجية الموعودة؛ التي ستكون حتما مغموسة بتغلغل دولي يجعل الاستقلال حقيقة شكلية.
الإجابة عن بعض هذه الاستفهامات لم تتأخر، والمؤسف أنها جاءت على أسوأ التوقعات. لقد عالج الجنوبيون اختلافاتهم مع الشمال بالانفصال الكامل، ثم انهم راحوا يقاربون تمايزاتهم البينية بلغة الدم والاستعانة بالآخرين، فما الذي استجد على حياتهم غير انها زادت بؤسا على بؤس، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق