الاثنين، 25 يوليو 2016

الهردبيس في بيان باريس

قرأت بعناية فائقة البيان الذي أصدره من باريس أول أمس الثاني والعشرين من يوليو (متوافقاً مع الذكرى الخامسة والأربعين لاندحار الانقلاب الشيوعي على نظام الرئيس
نميري عام 1971) المجلس القيادي لقوى نداء السودان. ومثل ملايين غيري من أبناء هذا الوطن الغالي تنفست الصعداء، وطابت نفسي وأنا أقرأ السطور التي أعلن عبرها المجلس عن المستجدات الايجابية في شأن خارطة الطريق، وبشر بتوقيعه عليها، والانطلاق من ثم الى الاجتماع التحضيري في أديس أبابا، واطلاق العملية السلمية تحت مظلة الحوار الوطني الجامع.
وكيف لا تسعد قلوبنا بشريات الحوار الجامع المانع، وقد أضنى تلك القلوب عبر السنوات مأساة الحرب الأهلية الشنعاء التي طالت شرورها الشيطانية أجزاء عزيزة من بلادنا، ودفعت ثمنها موتاً وقهراً وذلاً وهواناً حشود البؤساء من الفقراء والمعوزين في الغرب والنيل الأزرق. والحرب الأهلية عبر التاريخ الحديث وقودها السواد من العباد، أما قادتها ونجومها من لوردات الحرب فهم في حصون حصينة، وعز وزينة، يأكلون اللاذونج بالفستق المقشور، وترفل نساؤهم في الدمقس والحرير.
غير أنني عجبت لما بدأ لي في بيان البشريات ذاك من عوار وتخليط وازدواجية في الخطاب وعجز مدهش عن الاتساق، وأود هنا أن انفذ الى الجوهر دون القشور، فأمحض هؤلاء الأحباب نصحى محتسباً الأجر عند الله.
يا أحباب : من يخلص النية في التعاطي الايجابي المنتج لحل قضايا الوطن فيوقع على خارطة الطريق ويدخل في دين الحوار لا يشهر السيف في وجوه محاوريه، ولا يهددهم بقلب نظام حكمهم، ولا يحرض الناس على مقاومة سلطان الدولة، وانما يجالس القوم ويحادثهم ويسايسهم، ويصبر على مكاره الأ×ذ والعطاء، ثم يرى من بعد لمن تكون عاقبة الدار.
أما أحبابنا هؤلاء فما لبثوا ان بشرونا في بيانهم بخبر التوقيع على الخارطة والرضا بالحوار طريقاً لحل الازمة القومية، حتى حشدوا بيانهم حشداً بعبارات من شاكلة (تعزيز خطنا الاساسي المتمثل في المقاومة)، و(ندعو كافة الجماهير الى تصعيد المقاومة). و(استخدام وسائل المقاومة لتعزيز حملتنا المعلنة للوصول الى الانتفاضة المفضية للتغيير)!
تذكرت الضابط في المسرحية الذي قال لجنوده: انتشروا فرد عادل امام مذهولاً "هو أنتو حتنتشروا"؟! وجماعة باريس تريد ان تسألهم وتحاور، ولكنها في ذات الوقت تطالبنا نحن الجماهير بأن "تنتشر" وتنتفض. هم يسالمون ونحن ننتفض!
أما الأنكى وأضل فهي فعائل بعض التنظيمات المنضوية تحت بيان باريس، مثل حزب المؤتمر السوداني، الذي انفرد ببيان خاص به، ولم يكتف بالبيان العام، فأعلن عن سعادته الغامرة وترحيبه بالدخول في الحوار، وما أن سر بالنا وفرحت قلوبنا بما سمعنا حتى دهمتنا بقية البيان وقد جاء فيه : (التأكيد على المضي قدماً في خيار المقاومة وتصعيد الانتفاضة)، و(نتطلع الى المزيد من التفاف جماهير شعبنا والعمل بيد واحدة من اجل اسقاط النظام)! مسكين النظام، يسالمه ويحاوره نجوم المعارضة، وبينما هومنغمس في الحوار نسقطه نحن معاشر الجماهير!
المرحلة القادمة ستكون بالقطع قاسية وممضّة على نفوس كثير من قادة وكادرات التنظيمات المعارضة وأنصارها. فقد عاش هؤلاء ما يقارب الثلاث عقود من الزمان، حتى وهنت العظام منهم واشتعلت الرؤوس شيباً، وهم يلوكون الأناشيد الثورية والخطب التحشيدية، ويدعون قواعدهم التي يفترض أنها تدين لهم بالولاء إلي الانتفاض والثورة. وسيصعب على الذين رقصوا على طبول الحرب كل تلك السنوات أن يثوبوا إلي خطاب الحوار والسلام. لكنهم الموتورون أصحاب الثأر من الفتيان. أرادوا القصاص فلا يذهب دم أبيهم هدرا، فعاظلوا الدنيا وعاظلتهم. ثم أجبرتهم صروف الزمان على قبول الدية. قبلوها ممضاً، ولكن عيونهم تتحشاى أن تقع في أعين الأم والشقيقة وبنات العم، فترسل إليهم الإشارات من طرف خفي بأن قبول الدية لا يعني نسيان الثأر!
يا هؤلاء: لو أن شعب السودان أراد أن ينتفض على النظام القائم فلن ينتظر بياناً من احد. فقد ثار شعبنا في أكتوبر1964 وابريل 1985 بغير حاجة إلي تحريض البيانات.
ماذا لو تواضعنا على توفير الطاقات المبذولة في التحشيد والتحريض, وقلنا للناس بغير وجل ولا خوف: الحوار هو خيارنا الإستراتيجي لإيقاف الحرب وتحقيق السلام وتكريس مبادئ الديمقراطية والحريات العامة، والانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة عبر انتخابات حرة ديمقراطية مباشرة يكون الاحتكام فيها للشعب؟!
ما أظن إلا أن شعبنا سيجزل لكم عندها من الاحترام والتقدير بغير حساب، عوضاً عن البيانات المتلبسة التي يقف المنطق أمامها مشدوها، من شاكلة بيان الثاني والعشرون من يوليو القائل: "وافقنا على خارطة الطريق وباركنا الحوار الوطني، فأحتشدوا أيها الناس واستعدوا للانقضاض على النظام وإسقاطه"!
بقيت عندي ملاحظة واحدة. ورد في الفترة الثالثة من بيان قوى نداء السودان تحت العنوان الفرعي "الوضع التنظيمي" العبارة التالية: (تمثيل الشباب والمناطق المهمشة في كافة مستويات الهيكل التنظيمي). وقد حيرتني تلك العبارة وروعتني، ووجدتني أخاطب نفسي كالأهطل: هل يعقل هذا؟هم يا دوب حيمثلوا المهمشين والمناطق المهمشة في الهيكل التنظيمي؟!!
ذلك والله العجب العجاب بعينه. طيب وماذا عن الرهط من قادة الحركة الشعبية والحركات الدارفورية الذين يشكلون العمود الفقري لتحالف نداء السودان،الذين ظلوا يتولون تمويل أنشطته، من الساس إلي الراس، ويغدون عليه من أموال الفرنجة التي تملأ حساباتهم في بنوك الغرب؟ كنت كل الوقت وعبر الزمان أظن أن هؤلاء هم (المهمشون). ولكن الذي تشي به تلك العبارة، هي أنهم لم يعودا كذلك، وأن هناك مهمشون جدد بخلاف هؤلاء سيجري تمثيلهم "في كافة مستويات الهيكل التنظيمي"، أو كما قال! ولكننا نعود فنقول الحمد لله على أية حال، على بركة الله يا قوم. والتهنئة واجبة ومستحقة لجماعة باريس برغم هردبيس التناقضات في خطابهم. خيراً فعلتم. فلنبتعد إذن عن القضايا الخلافية، ولنلتف حول اشراقات التحول الإيجابي، ولنحتفي بها. ولندع ربنا أن يسدد الخطى ويبارك المقاصد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق