الأربعاء، 20 يوليو 2016

جدل الانفصال بين أوروبا والسودان

تمر في يوليو من كل عام ذكرى انفصال، أو استقلال، جنوب السودان، وهي مناسبة متجددة وجديرة بالتوقف عندها لمراجعة المواقف والاعتبار. في كل عام ينقسم الناس ما بين مؤيد لما حدث باعتبار أنه كان الخيار السلمي الوحيد ومن يرى أنه
حدث تفريط ما بوحدة البلاد أو أن قرار منح الحق بتقرير المصير نفسه كان قراراً متسرعاً وغير موضوعي.
لكن المناسبة تمر هذا العام بشكل مختلف، فمن ناحية استبق مسؤولو الدولة الحديثة تاريخ ولادتها بالقول إن الاحتفال هذا العام سيكون مختصراً وعلى أضيق نطاق نسبة للظروف الاقتصادية التي تشهدها البلاد، ومن ناحية أخرى لم يعد الاحتفال ممكناً بعد تصاعد القتال الأهلي بشكل عنيف وغير مسبوق في الأيام ذاتها.
أما الجديد فهو أن جدل الانفصال لم يعد قاصراً على المحيط العربي والأفريقي، بل أصبح حديث الساعة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وهو الأمر الذي ما تزال عواقبه محل دراسة وتحليل داخل وخارج أوروبا، التي أعلن عدد من قادتها السياسيين رغبتهم في محاكاة المثال البريطاني.
هل يمكن عقد مقارنة بين خروج الجنوب من رحم السودان وخروج بريطانيا، بكل ما تحمله من تأثير اقتصادي وسياسي، من مشروع الوحدة الأوروبية؟ قد تبدو المقارنة لأول وهلة مستبعدة لأنها ستقود لمقارنة الحالة السودانية بالحالة الأوروبية، لكن إذا تمت دراسة الأمر بانتباه، وإذا انطلقنا من قاعدة تشابه التجارب الإنسانية فإننا سنكتشف أن القصتين ليستا على طرفي نقيض كما تبدوان.
أذكر أنني كنت مقيماً في بلجيكا حينما تسارعت الأحداث السياسية التي أدت في خلاصتها لانفصال جنوب السودان، التي بدأت بالانتخابات عام 2010 ثم الاستفتاء والانفصال في العام التالي. في ذلك الوقت كان يدهشني اهتمام الصحافيين البلجيكيين بالمسألة السودانية، لدرجة إيفاد صحافيين لمتابعة الأحداث عن قرب، حيث أن الصحف البلجيكية بشكل عام يندر أن تكرس جزءاً كبيراً من مساحتها لخبر أجنبي، إلا إذا كان ذا تأثير مباشر على البلاد.
إلا أنه، وحسب وجهة نظر المراقبين البلجيكيين، فإن التجربة السودانية في الانفصال أمر يهم بلجيكا فعلاً، فتلك البلاد على صغرها تعاني من تنافس هوياتي لا تخطئه العين بين سكان الشمال الناطقين بالهولندية، الذين يسمون منطقتهم بالفلاندر وسكان الجنوب الناطقين بالفرنسية في منطقة الوالون. هذا التنافس وصل حد المطالبة الجادة بالانفصال، وتصادف أن تعلو أصوات الانفصاليين في الوقت الذي كانت فيه دولة افريقية تنجز بالفعل انفصالها. كان هدف الإعلاميين والمتخصصين البلجيكيين هو دراسة الكيفية التي سيصنع بها السودان انفصاله وكيف ستتم إدارة شؤون الدولتين وتقسيم البلدين من النواحي الإدارية والسلطوية.
الأمر بالنسبة لبلجيكا كان أكثر تعقيداً من أي حالة أخرى، فهي بطبعها دولة بمساحة محدودة لا يكاد متصفح الأطلس يعير لها بالاً، فما بالك لو انقسمت إلى دولتين منفصلتين؟
من ناحية أخرى لا يمكن للمقارن بين حالة جنوب السودان وبريطانيا أن يتجاهل وجه الشبه المتعلق بتمتع كل منهما بوضعية خاصة داخل الكيان الأكبر، وهي الوضعية التي سهلت لاحقاً خروجه، في حالة بريطانيا، أو انفصاله، في حالة جنوب السودان. فقد تمتع الجنوب بعد اتفاق السلام 2005 بحكم ذاتي وفرض سيطرته على أقاليمه باستقلال، لدرجة أنه لم يكن يسمح بتعيين موظفين من غير الجنوبيين في الدواويين الرسمية، أو الوظائف الكبيرة في الوقت ذاته الذي شارك فيه الجنوبيون بحكم السودان الأم وتقلدوا مناصب رفيعة ومراكز حساسة.
بريطانيا كذلك كانت داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه في الوقت ذاته، فهي الدولة التي تتمتع بصوت عالٍ إبان الاجتماعات واتخاذ المواقف المصيرية، في الوقت الذي ترفض فيه خطوات أساسية في سبيل الاندماج التام، كالعملة الأوروبية الموحدة والعمل باتفاقية «الشنغن» لتسهيل المرور بين الدول الأعضاء، كما أنها ظلت من أبرز الأصوات الرافضة لمشاركة الاتحاد همومه فيما يتعلق باللاجئين.
ورغم أن للدعوات الانفصالية في كل من بريطانيا وبلجيكا وجنوب السودان خصوصية لا يمكن إنكارها، إلا أن هناك شبهاً كذلك وهو المتعلق بالأنانية الاقتصادية، فأساس المشكلة البلجيكية، بالإضافة إلى الموضوع الثقافي هو أن إقليم الشمال يتمتع بموارد أكبر من إقليم الجنوب الفرانكفوني وهكذا يرى الشماليون أنهم يعملون أكثر ويضخون أموالاً مهمة في الاقتصاد الوطني من أجل أن ينعم الجنوبيون بالراحة ويتمتعوا بأسباب الرخاء من عائدات ضرائبهم.
جنوب السودان كذلك كان منطقه، بالإضافة إلى خلاف الثقافة والهوية، أنه إذا كان النفط يشكل جزءاً مقدراً من اقتصاد السودان، وإذا كان هذا النفط يوجد في أرض الجنوب، فإن لا شيء يجبر على الاستمرار داخل حدود دولة تكبلها العقوبات والديون وتقيّد تحركاتها العلاقات المتوترة مع العالم الغربي.
أما بريطانيا فقد ضاقت ذرعاً بمنطق التضامن الأوروبي، الذي يفرض عليها مساعدة الدول المتعسرة والهشة داخل الاتحاد، كما يلح عليها بقبول مزيد من اللاجئين كل عام. نقطة أخرى مشتركة وهي الإحساس بالصدمة، فرغم أن فرضية الانفصال كانت مطروحة منذ بدء مفاوضات السلام إلا أن صدمة كبيرة أحاطت بالسياسة، خصوصاً الاقتصاد، في السودان حيث بدا الأمر وكأنه مفاجئاً واستطاع الاقتصاد السوداني، الذي لم يكن قد درس أبعاد خسارة موارده البترولية بتعمق، والذي تحيطه مسبقاً تحديات أخرى، استطاع أن ينجو بمعجزة من الانهيار المالي التام.
للانفصال، ومهما بلغ التحضير والتأهب لعواقبه، صدمات لا يمكن تخمين عواقبها وهو ما لم يقتصر على الحالة السودانية، بل شمل الحالة الأوروبية أيضاً، فبعد التداعيات السياسية وتنحي توني بلير لفشله في الترويج للاندماج الأوروبي، ظهرت تداعيات اقتصادية قاسية تمثلت في تدهور الجنيه الاسترليني، وتفكير الشركات الكبرى بالانسحاب من العاصمة البريطانية لأنها أصبحت خارج النطاق الأوروبي وهو ما يهدد بفقدان استثمارات بمليارات الدولارات، كما يهدد آلاف الموظفين الذين قد تلغى وظائفهم. كل ذلك جعل رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة تعلن ما مفاده أنها ستتلكأ في القيام بإجراءات الخروج حتى تضمن تقليل الخسائر على اقتصاد بلادها.
يرى كثيرون أن الانفصال ليس حلاً، فبعكس ما روّج له إعلامياً بقوة، لم ينعم جنوب السودان بالسلام بعد الانفصال، وانتقلت الدولة التي كانت موحدة ضد عدو مشترك للدخول في حروب أهلية بدأت فيها القبائل الكبرى بالقتال العنيف من أجل فرض نفوذها وسيطرتها. قتال ما يزال يجرف في طريقه الكثير من المدنيــــين المنتمين لهذه القبائل، ولغيرهم من أبناء القبائل الأخرى ذات الوزن الأصغر، الذين كانوا يحلمون بفرص متساوية في وطن جديد، فإذا بهم يكتشفون أنهم أمام تمييز أقسى بكثير من التمييز الذي عاشوه ضمن الدولة الأم.
في بريطانيا كذلك، وبمجرد انتهاء عملية التصويت بدأت الأصوات المتململة داخل المملكة تتحرك مستعيدة الأسئلة القديمة عن الهوية، وهو ما رافقته مظاهر عنصرية غير معتادة في حين فضلت بعض الأقاليم أن تنأى بنفسها عن نتيجة هذا الاستفتاء عبر التفكير في وضع يجعلها من جديد ضمن الاتحاد الأوروبي.
يبقى سؤال عن الاختلاف بين حالات الانفصال الأوروبية وحالة السودان أو أي دولة أخرى عربية أو أفريقية. هناك اختلافات كثيرة من بينها على سبيل المثال انعدام البعد الخارجي، فبعكس ما هو موجود في البلاد المستضعفة لا يوجد من يحرّض بشكل علني أطرافاً بعينها هناك على الانفصال، أو من يدعم حركات تستخدم التحريض الطائفي أو العنصري. هنا نقول إنه قد حاول البعض تضخيم الدور الأمريكي في المسألة الأوروبية، باعتبار أن الأمريكيين يفضلون أن تكون أوروبا مبعثرة، بحيث لا تشكل لهم منافساً جدياً، وهو تحليل قد يكون صحيحاً من الناحية النظرية لكن يجب أن لا ننسى أن كثيراً من صانعي السياسة الأمريكية أبدوا حزنهم لهذا الخروج، باعتبار أن بريطانيا تحديداً كانت حليفتهم الأهم والمسوّق الأبرز للرؤى الأمريكية أوروبياً.
أما أهم اختلاف فيكمن في أن أي انفصال عبر الفضاء الأوروبي، إن حدث، فإنما سيحدث بشكل حضاري ولن يقود ابداً إلى حرب أهلية أو صراع دموي بين الأخوة أو الجيران. بالنسبة لأوروبا أصبحت تلك المآسي جزءاً من الماضي لا يفكر أحد باستعادته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق