الأحد، 21 يونيو 2015

كيف أدار السودان معركته الأخيرة مع لاهاي؟

إذا كان من الطبيعي والمتوقع ان يشفق البعض والبعض الآخر يصاب بالقلق جراء ما كان يتفاعل من احداث في العاصمة الجنوب افريقية جوهانسبرج بأن المواجهة بين السودان ومحكمة الجنايات الدولية وكيفية المحافظة على سلامة الرئيس البشير وسط تلكم التداعيات، فإن ما كان غير طبيعي ومؤسف، ان بعض الذين درجوا على إدارة معاركهم (الخاصة) من خلال الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تعاملوا مع الحدث بغباء مضحك ومبكي معاً!
رسموا سيناريو بالغ السذاجة لمآلات الأمور. أظهروا الرئيس البشير وكأنه مجرد شخص عادي وليس رئيساً لدولة لها مؤسسات تقييم وتقدير ووضع الاستراتيجيات والخطط. نشطاء الانترنت تجلت سذاجتهم وبساطة مداركهم من خلال ما طرحوا من وقائع تثير الدهشة حقاً، ولهذا كان من المحتم ان تؤول توقعاتهم ووقائعهم تلك الى محض اصداء من الخيال.
ولكي نضع الصورة كاملة بلا زيادة و لا نقصان يجدر بنا أولاً، ان نوضح للكافة، سودانيين وغير سودانيين ومن واقع متابعاتنا لملف محكمة الجنايات ومنذ اصدارها لمذكرة توقيف بشأن الرئيس البشير في العام 2009 ان الحكومة السودانية وضعت استراتجية رئيسية فحواها ان تعمل الرئاسة السودانية على مواجهة المحكمة باستمرار في كل محفل وفي كل دولة دون كلل أو ملل.
استراتيجية الرئاسة السودانية تم بناؤها على ضرورة عدم الخضوع للمحكمة وعدم ترك المجال لها لتحد من حركة الرئيس، فكلما شق الرئيس طريقه عنوة ليصل الى أي محفل أياً كان موقعه، كلما حاصر حركة المحكمة وأفرغها من محتواها، وللتدليل على هذه الاستراتيجية فإن حركة الرئيس لم تتوقف قط، أللهم إلا لأسباب برنامجه الرئاسي وارتباطاته ومدى أهمية كل برنامج وقد رأينا كيف سار الرئيس الى الصين وتركيا وتشاد وكينيا وارتريا وإثيوبيا ومصر والخليج.
استراتيجية مواجهة الجنائية كانت وما تزال تهدف الى قلب الصورة ، فبدلاً من ان تلاحق لاهاي الخرطوم تفعل الخرطوم العكس، وهاهي الامور تبلغ ذروتها الآن في جوهانسبرج ولهذا فإن الامر لم يكن ليبلغ هذه الذروة لو لم يكن مخططاً له بعناية.
ثانياً، سفر الرئيس الى أي دولة -منذ العام 2009- على الأقل لا يتم بالسهولة التي يتداولها نشطاء الانترنت فعلاوة على ما يمكن ان تسميها القراءة العميقة للوضع في المحفل المعين، فإن الرئاسة السودانية لا تنشغل بوضع تدابير السلامة بقدر ما تنشغل بالمكاسب التى من الممكن ان يحققها السودان في المحفل المعين في إطار مواجهة المحكمة. بمعنى ان السودان يقدر دائماً -بدقة- نسبة الخسائر التي تلحق بالمحكمة الجنائية في كل مواجهة ومدى تأثيرها في خاتمة المطاف على مجمل وجودها وتأثيرها، بحيث تسهم كل مواجهة في انقاص وزن المحكمة وقتل خلاياها حتى تتهاوى تماماً في النهاية وتصبح أثراً بعد عين.
وقد تلاحظ ان مواجهة جوهانسبرج الاخيرة كانت بمثابة الضربة القاضية لأن الظروف التى كانت المحكمة تعتقد انها مواتية لم تكن ذات جدوى، وعدم الجدوى هذا كان محسوباً بدقة لدى الحكومة السودانية خططت له جيداً وبذكاء ومع حساب نسبة المخاطرة ثم نفذته!
ثالثاً، هنالك استحالة يمكن وصفها بأنها استحالة مطلقة فى ان تجرؤ أي جهة محلية فى اي دولة على التعاون مع محكمة الجنايات الدولية في اعتقال رئيس دولة ما يزال في السلطة ويتمتع بحصانة دبلوماسية منصوص عليها في اتفاقية فينا 1959م. وجه الاستحالة يتمثل في ان المجتمع الدولي حال تنفيذ أمر كهذا سوف يتحول مباشرة الى غابة كبيرة. سوف تنهار عشرات الاتفاقيات الدولية بشأن معاملة الرؤساء وسوف تتهاوى الاعراف والتقاليد الدبلوماسية التى بناها العالم عبر مئات السنين هذا بخلاف الحروب المتوقعة لأن المساس برمز سيادي لأي دولة  هو بمثابة اعلان حرب.
وعلى ذلك فإن السودان وهو يشارك في مؤتمر قمة الاتحاد الافريقي رقم 25 لم يكن يعمل ضمن سياق مشاركة (اعتباطية) تعتمد على محض المصادفة وتصاريف الاقدار. السودان كان يمضي في ذات اتجاه ملاحقته لمحكمة الجنايات الدولية ونزع ثيابها العدلية التى تتظاهر بها وتركها فقط بورقة التوت السياسية الوحيدة التى تبقت لها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق