الأحد، 21 يونيو 2015

مأزق المحكمة الجنائية في تجلّيها السوداني

حبس السودانيون، مؤيدو الحكومة ومعارضوها وسواد الناس، أنفاسهم الأسبوع الماضي وقد بدت لوهلة البلاد في مواجهة سيناريوهات مفتوحة على احتمالات شتى عندما وجد الرئيس عمر البشير نفسه محاصراً في جوهانسبيرج، التي ذهب إليها للمشاركة في أعمال القمة الإفريقية، بأمر الاعتقال الصادر بحقه من المحكمة الجنائية الدولية منذ العام 2009. ودرج البشير على تحدي أمر الاعتقال مراراً بالسفر إلى دول كثيرة من بينها دول إفريقية موقعة على ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية، وتعرض أحياناً لمضايقات، غير أنها المرة الأولى التي تتخذ فيها الأحداث منحى خطيراً، وبدا فيها أمر الاعتقال على وشك الحدوث بالفعل.
لم تكن الإرهاصات التي سبقت هذه التطورات تنبئ بحدث مثير، على الرغم من إعلان منظمة مجتمع مدني جنوب إفريقية نيتها تحريك إجراءات قضائية لاعتقال البشير إذا وصل إلى جنوب إفريقيا بالفعل. في الخرطوم لم يكن هناك أي تحسب من أي نوع لأدنى احتمال لتوقع ما حدث حتى أن وزارة الخارجية اعتبرتها زيارة عادية "لا تحتاج لترتيبات أمنية أو سياسية"، وأن تحركات نشطاء لتحريك إجراءات قانونية ضد الرئيس "مجرد تشويش".
تستند التقديرات التي حفزّت مشاركة البشير في القمة الإفريقية المنعقدة في جنوب إفريقيا إلى عدة عوامل، أولها أن تجربة السنوات الست الماضية منذ صدور مذكرة الاعتقال في غياب قدرة فعّالة للمحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة بحق الرئيس البشير واثنين من كبار معاونيه على خلفية انتهاكات حرب دارفور، أقنعت الحكومة السودانية بأن أوامر المحكمة غير ذات قيمة في ظل تحدي البشير المتكرر لها، ولا سيما عندما أبلغت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة مجلس الأمن الدولي في تقريرها الدوري الأخير للمجلس قبل بضعة أشهر أنها قررت وقف لإجراء أي تحقيقات بشأن دارفور شاكية من عدم تعاون مجلس الأمن الذي أحال القضية بالأساس للمحكمة الجنائية في تنفيذ أوامر الاعتقال، خاصة أن المحكمة ليست لديها أجهوة لتنفيذ قراراتها.
اعتبرت الخرطوم قرار بنسودة مؤشراً آخر تأكيداً لقناعتها بأن موضوع ملاحقاتها القضائية للبشير ومعاونيه في حكم المنتهي، وأن صمود الخرطوم بمساعدة الدعم السياسي والدبلوماسي الخارجي القوي لا سيما من الاتحاد الإفريقي، وإلى حد ما من الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، قد "شيّع المحكمة الجنائية إلى مثواها الأخير"، فضلاً عن تلقيها تطمينات من حكومة جنوب إفريقيا بتوفير حصانة للبشير وحمايته من أي اعتقال، وهو ما أوفت به، على الرغم من كلفة ذلك السياسية على الرئيس جاكوب زوما في ظل الجدل الدستوري والسياسي المحتدم حول ذيول الحدث. ولعل ما شجّع البشير على مغامرة السفر إلى بلد سبق أن هّدد بتوقيفه إذا زاره، ما تردّد من أن الاتحاد الإفريقي بصدد اتخاذ قرار بالانسحاب من "الجنائية" في قمة جوهانسبيرج.
بيد أن الجانب الأكثر أهمية في حسابات هذه المسألة يتعلق بالموقف الدولي، لا سيما الدول الغربية، ذلك أن تعامل مجلس الأمن الدولي الذي أحال ملف قضية انتهاكات دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بقرار "1593" في مارس 2005، لم يثبت خلال السنوات العشر الماضية أن لديه حرصا خاصا للوصول بالقضية إلى نهاياتها المنطقية، فعلى الرغم من الطابع القانوني الذي حاول إضفاءه على المسألة إلا أن تعاطي المجلس أثبت باستمرار أنها ذات أجندة سياسية متحركة تهم الدول الدائمة العضوية وحساباتها المعقدة، وتحوّل القضية إلى مسألة خاضعة للمساومات السياسية هو الذي جعل المحكمة الجنائية عاجزة عن تنفيذ أوامرها لأن للدول الكبرى حساباتها الأخرى.
ولا أدل على ذلك من أن قرار إحالة الملف قبل عشر سنوات تمّ بموافقة أربع من الدول الدائمة العضوية، الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا، فيما امتنعت الصين عن التصويت في وقت كانت الخرطوم تنتظر أن تستخدم بكين الفيتو لمنع تمرير القرار على خلفية العلاقات الوثيقة جداً بين البلدين، خاصة أن الصين هي أكبر شريك تجاري للسودان بفضل استثماراتها النفطية الكبيرة، كما أنه كان ثاني أكبر شريك تجاري لها في القارة الإفريقية. وروسيا التي صوّتت لصالح إحالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية، دارت الأيام لتقترب أكثر من الخرطوم وتحوّل موقفها لدعمها خاصة بعد أن صوتت الحكومة السودانية لصالح الاتحاد الروسي في الجمعية العامة بشأن نزاعها حول إقليم ناغورنوكرباخ مع جورجيا المدعومة غربياً.
بقيت واشنطن ولندن وباريس في موقفها الداعم "نظرياً" لأوامر التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية لكنها لم تحاول على الإطلاق "تفعيل" هذا الدعم السياسي الذي لا يتعدى إصدار البيانات التي تحثّ الدول الإفريقية الموقعة على ميثاق روما التي يزورها البشير على اعتقاله، ولم تعر آذاناً صاغية للشكاوى المستمرة من المدعي العام السابق أوكامبو، ولا اللاحقة بنسودة، وكثير ما يطرح تساؤل إذا كانت هذه الدول الكبرى الثلاث راغبة فعلاً في تنفيذ قرار الاعتقال الذي تطالب به الدول الأخرى، فهل يعجزها تنفيذه على نحو ما، مثلاً اعتراض الطائرة الرئاسية السودانية، فعلى الرغم من كل الجدل والضغوط التي صاحبت حادثة جنوب إفريقيا الأخيرة لم تقدم على ذلك.
من الواضح أن الأجندة السياسية، وليس عدم الرغبة أو عدم القدرة، هي التي تجعل العواصم الثلاث، واشنطن ولندن وباريس، ظلت تتخذ من مسألة "الجنائية" أداة لـ"المناورات والضغوط وحتى الابتزاز السياسي" في الحفاظ على استمرار لعبة "تطويع" الحكم في الخرطوم لتمرير أجنداتها. في السنوات الثلاث الأولى بعد صدور قرار التوقيف بحق الرئيس البشير (2009 - 2011) كانت تلك السنوات ذروة الاستحقاقات الرئيسية في "اتفاقية السلام الشامل"، الانتخابات والاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان وقبول وتنفيذ نتيجة الاستفتاء، التي كانت شبه محسومة سلفاً لصالح تقسيم السودان وفصل الجنوب، كانت الدول الثلاث عرّابة دول جنوب السودان الوشيكة الميلاد وقتها، ولذلك لم تأبه تلك الدول لقرار التوقيف الصادر حينها حديثاً، ولا لتحقيق العدالة لضحايا دارفور الشعار الذي رفعته في تأييدها لأوامر الملاحقة، فبعد عام واحد باركت تلك الدول إعادة انتخاب البشير للرئاسة في أبريل 2010، وأصدرت شهادات نزاهة للانتخابات التي شابها الكثير من اللغط وسط مقاطعة أغلب قوى المعارضة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق