الثلاثاء، 23 يونيو 2015

لماذا فقدت دول العالم حماسها تجاه محكمة الجنايات الدولية؟

من الناحية العملية والواقعية فإن من الصعب ان لم يكن من المستحيل ان تغامر أي دولة من الدول بالتورط في توقيف رئيس دولة أخرى تحقيقاً للعدالة الدولية المزعومة، الامر اعقد مما يتصور البعض، بل لا نغالي إن قلنا ان اكبر خطأ وقع فيه مهندسو محكمة الجنايات الدولية إقرارهم لمبدأ ملاحقة الرؤساء وهم في السلطة.
أقل ما يمكن ان يترتب على اقرار كهذا، إنهيار العلاقات الدولية التي تراعي الاعراف والتقاليد الدبلوماسية وهي امور استغرق العالم مئات السنين لكي ما يبنيها ومع ذلك فإن هناك في الواقع عدة اسباب تحول دون تورط الدول في توقيف رؤساء دول آخرين مهما كانت مصالحهم ومهما كان حجم (الجائزة) التي من المتوقع ان يحصلوا عليها.
فمن جهة أولى، فكما هو معروف فإن التحقيقات التي يجريها مكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية وبمقتضى نصوص النظام الاساسي للمحكمة هي تحقيقات سرية وهي ليست سرية كون ان أحداً ليس من حقه الاطلاع عليها فحسب ولكنها سرية حتى في طبيعة الادلة والوثائق والمستندات التى يعتمد عليها الاتهام في بناء دعواه! بمعنى أدق فإن المدعي العام بإمكانه ان يستعين بتقارير استخبارية من اي دولة، وبإمكانه ان يقدم وعود لبعض الشهود ويتكفل بتذاكر سفرهم وتوفير مقر إقامة وحماية لهم.
المدعي العام بإمكانه ان ينتقي من الخصوم والمعارضين للشخص المعني ما يشاء طالما انه يريد ما يدعم الاتهام الذي يسعى لإثباته. المدعي العام السابق للمحكمة (لويس اوكامبو) وصل به الامر الى درجة السفر الى مناطق عديدة بحثاً عن اشخاص لديهم استعداد للإدلاء بشهادات ضد الرئيس البشير. الرجل حاول فى مرحلة من المراحل وضع الاعلان في وسائل الاعلام الساعية الانتشار يستحث فيها (من يرغب في الشهادة) بالإعلان عن نفسه!
اوكامبو نفسه بدا في مرحلة من المراحل (كمراهق) يتحرش بمن يعملون معه من النساء، كما تم رصده اكثر من مرة وهو يلتقى (سراً) عملاء لوكالات استخبارية دولية معروفة! كل دول العالم -افريقية وآسيوية وأروبية وعربية- ومن واقع وجودها في المحيط الدولي تعرف (طبيعة تحقيقات المحكمة) وعلى ماذا تعتمد وماذا كانت هذه التحقيقات عادلة ونزيهة أم لا.
وعلى ذلك فإن أي دولة (لديها علم خاص) بما تم من تحقيقات وتكون قد أدركت دون أدنى شك ان المقصد ليس تحقيق العدالة إنما أشياء اخرى ذات صبغة سياسية، الامر الذي يحبط تماماً من أي رغبة لها في التعاون مع المحكمة لأنها في هذه الحالة تخسر مرتين، مرة حين تفقد الى الأبد الدولة التى اوقفت رئيسها واعتقلته؛ ومرة حين تكتشف لاحقاً ان الرئيس الذي اوقفته تم تلفيق التهم في مواجهته وأن هذا التلفيق لن يصمد في مرحلة المحاكمة ولمن اراد الاستيثاق أكثر فليعود الى قضية الرئيس الكيني، (كينياتا) الذي لجأ الى عقد صفقة بتسليم نفسه على ان يحصل على البراءة لاحقاً! وبإمكان أي شخص ان يتصور مستوى الصدقية والعدالة في مثل هذا المسلك العجيب.
ومن جهة ثانية، فإن الدول كلها حتى تلك التى لا تكترث كثيراً لقضية الكيل بمكيالين تعرف في قرارة نفسها ان هناك (عشرات الرؤساء) في العالم –اذا كانت المحكمة نزيهة بحق وحقيقة– ينبغي ان يحاكموا على جرائم أدلتها الساطعة الفضائيات ولا تحتاج لتحقيقات ووثائق ولا شهود. فقط أشرطة من اقرب استديو لأي فضائية ومع ذلك لا تحرك المحكمة ساكناً.
لماذا إذن تبذل المحكمة كل هذا الجهد وتقيم الدنيا ولا تقعدها بمزاعم لجرائم في دارفور؟ اذا بحثت أي دولة -بجدية- عن اجابة هذا السؤال فإنها سوف تقرر على الفور ألاّ تجاري هذه اللعبة الدولية المقيتة، وهو ما حدث فعلاً مؤخراً في دولة جنوب افريقيا.
من جهة ثالثة فإن التساؤل يثور بشدة، هب ان الدول تعاونت على ملاحقة رؤسائها على هذا النحو الذي تريده المحكمة؛ وهب ان لاهاي نفسها اصبحت دقيقة فى أحكامها وتوشحت بالعدالة، هل من المتصور ان تطال ملاحقة محكمة الجنايات المجرمين الحقيقيين في اسرائيل الذين يقتلون العشرات يومياً ويهدمون المنازل على ساكنيها؟
ان النقطة المركزية في قضية العدالة الدولية إنما تتركز حول مبدأ القوى والضعيف مبدأ ان تتوفر حماية دولة صريحة مباشرة للبعض ولا  تتوفر لآخرين. مبدأ الاخلال فى التعامل مع الملفات المختلفة بأكثر من وجهة نطر وباستخدام حق الاعتراف والنقض فقط لأغراض حماية اطراف مهما ارتكبت من جرائم.
إذا تمكن المجتمع الدولي من التخلص من هذه المثالب ونجح في (المساواة) بين الجميع متخلياً عن المصالح الخاصة والتلاعب بمصائر الآمنين وعقلية الاستحواذ والاستعمار فلربما في ذلك الحين وحده يصبح بالإمكان ايجاد عدالة دولية حقيقية؛ أما قبل ذلك فالأمر لن يتجاوز كونه تلاعب مكشوف بأقدار ومصائر الشعوب بقدر كبير من اللامبالاة والاستهتار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق