الاثنين، 5 ديسمبر 2016

الانسحابات المتصاعدة من لاهاي دلالات ومعاني!

لم تكن الدول التي أعلنت رسمياً انسحابها من ميثاق روما المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية -وآخرها روسيا- لم يكن تكن هذه الدول متضررة من إجراءات المحكمة. كما لم تكن تسعى بطبيعة الحال لتهرب من الخضوع لسلطانها. كل ما في الأمر أن
هذه الدول وبعد قراءتها لتجربة امتدت لـ13 عاماً هي عمر المحكمة وجدت عدداً من المثالب العصية على القبول  الاحتمال.
أولاً الالتزامات التى رتبتها المحكمة على الدول الأعضاء وغير الأعضاء تتعارض على نحو جوهري مع الالتزامات الدولية التى سبقت قيام المحكمة مثل اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية (1959) واتفاقيات الحصانة، والسيادة الوطنية، فالدول مطالبة بحظر دخول رؤساء وقادة دول إلى أراضيها وإذا ما سمحت لهم بذلك عليها اعتقالهم!
من المستحيل طبعاً ان تجرؤ دولة على الاعتداء على سيادة وطنية لدولة أخرى، ففضلاً عن أن هذا يتسبب في خراب العلاقات الدولية بين الدول ولا تسلم الدولة التى تقدم على اعتقال رئيس دولة من ردة فعل الدولة التى يتبع لها، من هنا تتعقد العلاقات الدولية و ينفرط عقدها، ولهذا فإن اغلب الدول المنسحبة قالت في قرار انسحابها أنها لن تستطيع الوفاء بالتزاماتها الدولية في ظل الالتزامات التى تفرضها عليها المحكمة. ومن هناك يمكن ان نستخلص مدى الهوة التى خلقها المحكمة في مضمار العلاقات الدولية.
ثانياً، بدا واضحاً –والمادة 13 من الميثاق وضعت سلطة الإحالة في يد مجلس الأمن الدولي، أنَّ الخضوع للمحكمة يبدأ على (نحو سياسي) وليس على حيثيات قانونية عادلة. مجلس الأمن ليس جهة قضائية عادلة هي جهة سياسية بامتياز وتحكمها المصالح وحق النقض، فكيف يمكن الاطمئنان إلى محكمة يبتدر الاتهام فيها مجلس مكون من أعضاء كبار لديهم مصالحهم ومزاجهم وأهدافهم الخاصة؟
 ثالثاً، تركيز المحكمة على دول بعينها -(دول القارة الأفريقية)- جعل التساؤل مشروعاً عما إذا كان الأفارقة وحدهم –دون دول عالم– هو وحدهم الذين يرتكبون الجرائم و يستحقون الملاحقة؟ الأدهى وأمرّ ان ملاحقة الأفارقة نفسها بدت محبذة من قبل دول لا تنتمي إلى ميثاق المحكمة -مثل الولايات المتحدة- ولا ترى فيها سلطة قضائية محترمة. ما يعني أن هذه الدول الكبرى إنما تستفيد من آلية المحكمة في إدارة خصومتها ومصالحها مع دول القارة. وبالطبع لا يمكن لأي قانوني عاقل أن يثق في آلية قضائية منقوصة الاحترام و النزاهة، هذا مستحيل.
رابعاً، فشلت المحكمة في تفسير ما أذيع عن تلقي قضاتها الرشاوي في حسابات مصرفية سرية. وهو فشل مضحك ومبكي لان الجهة القضائية في أي بقعة في العالم لا تحتمل الاتهامات في ذمم قضاتها وتكون لديها حساسية طبيعية حيال اتهام قضاتها في نزاهتهم وحيدتهم!
المحكمة الجنائية لزمت الصمت تماماً حال هذه الاتهامات وما تزال صامتة حتى الآن. من يثق في محكمة دولية ليست مستعدة لتبرأ ذمتها وتبرير ما قيل عنها من اتهامات خطيرة ومحزنة؟
خامساً، المحكمة نفسها ليست لديها أدنى قوة إلزامية لقراراتها، فهي بلا آلية تنفيذية وبالطبع من قام بإنشائها قصد ذلك حتى تصبح آلياتها مرتبطة بقوى دولية محددة، تدير الأمور وفق مصالحها.
مجمل القول وان الذين انسحبوا من محكمة الجنايات الدولية فعلوا ذلك بعد أن راجعوا -بدقة وتأني- في كل هياكل المحكمة وممارساتها العملية والملابسات المحيطة بطريقة عملها وهذا يجعل من تجربة المحكمة تجربة يائسة خصمت من رصيد المجتمع الدولي باتجاه ترسيخ الأمن والسلم الدوليين بأكثر مما كان مأمولاً أن تضيف، فقد كان الهدف، وبدلاً من إنشاء محكمة خاصة كل ما وقعت حروب وإبادة جماعية أن لا يضطر العالم لتشكيل محاكم خاصة وأن تكون هناك محكمة دائمة وعادلة لا تفرق بين ابيض وأسود أو أمريكي أو أفريقي أو إسرائيلي أو آسيوي.
كان ذلكم الهدف الأسمى للمحكمة، عدالة دولية واسعة النطاق تساعد على تقليل جرائم الأنظمة الدولية غير الانسانية وغير المنضبطة بالقانون ولكن المؤسف في الأمر أن الجميع ما لبث أن أدرك أن المحكمة لم تكن سوى أداة استعمارية حيكت بذكاء لكي تؤدب بعض الدول الضعيفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق