الأحد، 12 يوليو 2015

التدخل الدولي في السودان.. ورطة بلا مخرج (2-2)

فقد احتشد قرار مجلس الأمن الأخير الذي جدّد ولاية البعثة بإيراد حيثيات تضع الكثير من علامات الاستفهام حول جدواها، حيث "كرر تأكيد قلقه العميق من استمرار العوائق التي تواجهها العملية المختلطة في تنفيذ ولايتها، بما في ذلك القيود المفروضة على حركتها ووصولها إلى بعض المناطق نتيجة لانعدام الأمن وأعمال الإجرام والقيود الشديدة التي تفرضها قوات الحكومة والحركات المسلحة والميليشيات على حركتها" حسبما ورد نصاً في إحدى بنود القرار 2228. ولم يجد إلا أن "يهيب بجميع الأطراف في دارفور أن تزيل كل ‏العقبات التي تحول دون تصريف العملية المختلطة لولايتها على النحو الكامل والسليم، بسبل منها كفالة أمن ‏العملية المختلطة وحرية تنقلها". فماذا بقي لها إذن لتفعل إذا كان مجلس الأمن يستجدي من أطراف النزاع السماح لها بالقيام بالدور المنوط بها.
وكشف بند آخر هوان البعثة "يدين بشدة جميع الهجمات التي تستهدف العملية المختلطة، ويؤكد أن أي هجوم على العملية المختلطة أو تهديد بمهاجمتها هو أمر غير مقبول، و‏يطالب بعدم ‏تكرار تلك الهجمات وبمحاسبة المسؤولين عن ارتكابها بعد إجراء تحقيق ‏سريع ووافٍ"، فإذا كانت أطراف النزاع المطلوب لجمها تعبث بقوات دولية مهمتها حفظ السلام تبحث عنه عند المتحاربين أنفسهم فما الداعي لوجودها؟.
بيد أن ما يدعو للتساؤل حول مدى جدية المجتمع الدولي في تحمّل مسؤوليته تلك الصورة القاتمة للأوضاع الأمنية في دارفور، وهو يعرب في ديباجة القرار "عن بالغ القلق إزاء التدهور الخطير الذي شهدته الحالة الأمنية في دارفور بصفة عامة حتى الوقت الراهن من عام 2015، والأثر السلبي البالغ لهذا على المدنيين، وبخاصة النساء والأطفال، ولا سيما من جراء التصعيد الملحوظ لأعمال القتال بين قوات الحكومة والجماعات المسلحة المتمردة، فضلا عن تصعيد النزاعات بين المجتمعات المحلية على الأراضي وسبل الوصول إلى الموارد وقضايا الهجرة والمنافسات القبلية، بما في ذلك النزاعات التي تشارك فيها وحدات شبه عسكرية وعناصر الميليشيات القبلية، والزيادة في أعمال الإجرام واللصوصية التي تستهدف السكان المحليين، وإذ يعرب كذلك عن بالغ القلق إزاء استمرار الخطر الذي يهدد المدنيين من جراء الحالة الأمنية المتدهورة"، ومع ذلك يكتفي بأن يطلب من "جميع أطراف النزاع في دارفور وضع حد فوري لأعمال العنف، بما في ذلك الهجمات التي تستهدف المدنيين وأفراد حفظ السلام والعاملين في المساعدة الإنسانية".
ويورد مجلس الأمن الدولي في قراره إحصاءات مثيرة للانزعاج عن حجم الأضرار الإنسانية جراء تدهور الأوضاع الأمنية في دارفور، قائلاً إنه ترتب على ذلك "زيادة كبيرة في حالات تشريد السكان في عام 2014 وحتى الوقت الراهن من عام 2015 وما ترتب على ذلك من زيادة في الاحتياجات من المساعدة الإنسانية والحماية، حيث سجل 000 430 مشرد جديد في عام 2014، منهم حوالي 000 300 شخص لا يمكنهم العودة إلى ديارهم، وبلغ العدد الكلي للمشردين داخليا لفترات طويلة 2.5 مليون شخص والعدد الكلي للأشخاص المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية 4.4 ملايين دولار".
والسؤال إذا كان الوضع الإنساني بهذه القتامة فعلاً، وما دام مجلس الأمن يقر بعجز وضعف دور يوناميد في مواجهة أطراف النزاع، وأن هذا التدهور المريع حدث إبان وجود هذه القوات الدولية على الأرض في دارفور على مدار ثماني سنوات دون أن تحقق ليس تطوراً إلى الأفضل أو على الأقل تحافظ على الوضع، بل يحدث في وجودها تراجع كبير، فما الذي يتوقع المجتمع الدولي حدوثه وهو يصّر على استمرار عملية معطوبة وفاشلة بامتياز.
تكشف هذه المفارقة بالطبع عن طبيعة الأجندة السياسية لعواصم صناعة القرار الدولي الحريصة على استمرار وجود هذه القوات الدولية بغض النظر عن جدواها وقدرتها على تحقيق المهام المرجوة منها، كما تبيّن أن حماية المدنيين في دارفور المرفوعة شعاراً وستاراً لهذه الأجندة تأتي في مرتبة متأخرة في أولوياتها، إذ لا يُعقل أن يكون حصاد هذه العملية بعد كل هذه السنوات المزيد من المعاناة والتهديد والتشرد للمواطنين البسطاء.
ومن الواضح أن الحكومة السودانية تعاني عزلة عميقة سواء في محيط جوارها الإفريقي الأقرب أو على المستوى الدولي، وتقف وحيدة بلا نصير، فدعوتها للاتفاق على "استراتيجية خروج" للقوات الدولية في دارفور لم تجد آذاناً صاغية لا في مجلس السلم والأمن الإفريقي، ولا في مجلس الأمن الدولي، كما أن الصورة القاتمة للأوضاع في دارفور التي تناقض التقديرات الحكومية في الخرطوم القائلة باستباب الأمن والاستقرار والسلام في الإقليم إلا من جيوب معزولة، تزيد من الضغوط المفروضة عليها، خاصة أن قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بتمديد ولاية العملية الهجين دون اعتبار لمطالب الخرطوم صدر بالإجماع، وصوّتت لصالحه حتى بكين وموسكو ممن تظن أنهما حليفاها.
والحال هذه فإن كان وجود القوات الأجنبية في السودان فيما سبق، برضا الحكومة السودانية وإن كان على مضض، فإن وجودها الآن أصبح مفروضاً بقرار دولي لا تملك حياله خياراً، ولعل الخيار الوحيد المتاح أمامها الآن العودة للرهان على الأجندة الوطنية بعد استنفادها فرص المناورات الخارجية المحدودة والمكلّفة، وهو ما يعني أن التسوية السياسية الشاملة للأزمة الوطنية السودانية لم تعد اختياراً، بل واجباً وحلاً وحيداً لا مناص منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق