الأحد، 25 أكتوبر 2015

ديمقراطيون من ورق

في توقيت مثالي جاء انفضاض سامر تحالف الجبهة الثورية السودانية على خلفية التنازع على قيادتها، لا ليثبت ذلك صحة موقف الطرف الآخر المناوئ لها بالضرورة، ولكن من باب أنه أكمل دائرة الحلقة المفرغة لإنضاج شروط الأزمة السودانية لتستوي مأزقاً تاريخياً غير مسبوق، ذلك أن الجبهة الثورية المعادل الموضوعي للأزمة في النظام الحاكم والمفترض أنها البديل الناجع انهارت، للمفارقة في وقت كانت ينتظر أن تظهر فيه أفضل ما عندها من قدرة على تجسيد تصوراتها واقعاً ملموساً يغري بالتعويل عليها بديلاً، فإذا هي تسجل سقوطاً فاضحاً في امتحان التحول الديمقراطي الذي تنادي به.
وما حرب البيانات المتناقضة والمتبادلة بين الطرفين خلال الأيام الماضية التي تحاول شرح وتفسير ما حدث من خلال رواية كل طرف إلا تفاصيل لا أهمية لها البتة سوى تأكيد أن عقلية وتكتيكات قادة تحالف الجبهة الثورية بكل مكوناته ليس سوى وجه آخر للأزمة السودانية التي تتعدد وجوهها، ولكنها في الواقع تعبر عن عملة واحدة تكشف مدى سيطرة ثقافة الاستبداد والتسلط وانعدام الإرادة ومتلازمة العوز الشديد في الممارسة المؤكدة لشعارات الديمقراطية وسط النخب الداعية لها في الطبقة السياسية السودانية على امتداد طيفها.
ولعل الرسالة الأكثر أهمية في قراءة تبعات انهيار تحالف الجبهة الثورية هي نعيه لفرضية شكلت محور الأطروحة المركزية لمكوناته، وهي تحليل جذور الأزمة السودانية وفق جدلية صراع المركز والهامش، وها هو الصراع بين قوى الهامش الأساسية يحتدم على نحو ينهي أحد الأساطير المؤسسة للمأزق السوداني، فقد أثبت هذا الصراع الداخلي وسط مكونات الجبهة الثورية أن عقلية التسلط ونزعة فرض الإرادة على الآخر ليست محتكرة لـ "المركز" نحو ما كان يصور الأمر، بل هي حاضرة كذلك بقوة في ذهنية وممارسة غلاة دعاة إنهاء سيطرة المركز باعتباره أساس كل بلوى. وهو ما يؤكد أن جرثومة المرض المسبب للأزمة السودانية أصاب بعدواه أطراف الطبقة السياسية بكاملها، وأن محاولة البعض رمي الداء على طرف لينسل هو معافىً، غير ذات جدوى من واقع الحال.
ما يؤكد ما ذهبت إليه آنفاً أن انفراط عقد تحالف الجبهة الثورية لم يأت انقساماً مبنياً على اختلاف في الرأي وجهات النظر، وهو ما يعني أن يكون طابعه موضوعياً، بل جاء مبنياً على أسس جهوية على نحو فاضح، فقد تكتلت الحركات الدارفورية في مواجهة حركة الجنوب الجديد، فهل هي مجرد مصادفة أن يتخذ قادة الحركات المسلحة في دارفور -وبينهم ما صنع الحداد- موقفاً موحداً ضد الحركة الشعبية، الرافضة للتسليم بتداول تولي قيادة الجبهة وهو ما يعني أن الحركة الشعبية سيتعين عليها فقدان قيادة الجبهة التي سيطرت عليها طوال السنوات الأربع الماضية منذ تأسيسها، أو الانتظار طويلاً بحكم وجود ثلاثة قادة من حركات دارفور، ولذلك فإن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يفسر هذا الفرز أنه يرتكز على أسس جهوية، هامش الجنوب الجديد الذي يريد تمثيل "المركز المسيطر" في مواجهة هامش الغرب الذي لا يريد أن يستبدل سيطرة "المركز الجديد" بهيمنة "المركز القديم" .
صحيح أن جدلية صراع المركز المهيمن والهامش المستلب ليست حديثة ولا طارئة في حقل السياسة السودانية وكانت لها تجلياتها منذ بواكير الدولة الوطنية في عصر ما بعد الاستقلال، إلا أن الصحيح أيضاً أن الحركة الشعبية خصوصاً على يد زعيمها الراحل جون قرنق لعبت دوراً محورياً في الانتقال بها من مجرد همهمات احتجاجية في الأطراف إلى لاعب أساسي في قلب المركز، وإلى جعلها قضية مركزية بالغة الأهمية في السياسة السودانية حاضرة في قلبها، وليست مجرد بند ملحق بأجندتها التقيلدية، ولا أدل على ذلك من نجاح قرنق في فرض شروط للتسوية السلمية في نيفاشا تجاوزت مخاطبة ما كان يُعرف بمشكلة الجنوب كما جرت معالجتها في اتفاقية أديس أبابا إلى خلخلة تركيبة الدولة السودانية الموحدة، ثم تقسيمها، وارتهان ما تبقى منها لأزمات تبعات التقسيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق