الخميس، 25 مايو 2017

“قلق الأفول الأخير”

ربما بدا واضحاً للمتابع أن المزاج السياسي العام أصبح مزاجاً وفاقياً وحوارياً، لم تنتصر فيه الإنقاذ على معارضيها ودحرتهم نهائياً من دائرة التأثير والفعل المهدد لوجودها؛ لكننا يمكن أن نقول إنها استطاعت أن تفرض (خطها التحاوري والوفاقي) على المناخ السياسي العام، وأن تقدم ما يفيد للمجتمع الدولي والفاعلين الأساسيين فيه الذين طالما اتخذوا مواقف غاية في التشدُّد ضدها بالملفات المعلومة والحساسة، كالحروب في دارفور وجبال النوبة، وملف حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية، حتى إنها حوصرت في المجال الدولي كحكومة لا تؤهلها هذه الملفات للانخراط في علاقات صحية مع باقي دول العالم، وفق منطق علاقات دولية تؤثر عيله بشكل كامل، وتصيغ توجهات الفاعلين الدوليين المؤثرين: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة؛ ولولا المنفذ الصيني التجاري والاقتصادي والعلاقات الإقليمية المحدودة، لقضت هذه العزلة على الإنقاذ منذ زمن.
وفق هذا السياق الدولي، قدمت الإنقاذ هويتها الجديدة كحكومة معتدلة وقابلة للتعاون والنظر بجدية للملفات الدولية التي تؤخذ عليها، بحسب ما ذكرناه آنفا؛ فقدمت شكلا سياسيا جديدا للمجتمع الدولي، أثبتت له فيه أنها قادرة على التراجع والتنازل. لكن في الجهة الأخرى، كانت بعض أطراف القوى المعارضة التي ما زالت تراهن على الانتفاضة الشعبية والتغيير الجذري والنهائي للإنقاذ، أو في أحسن الأحوال فرض شروط تهيئ لانتقال وفق إيقاع قوى المعارضة الذي تطلبه لهذا الانتقال، لا بحسب شروط الإنقاذ كسلطة أمر واقع على المعارضة عليها أن تستجيب لشروط التفاوض معها.
لدى المحلل السياسي الرصين الذي يتبع مسارات تطور وحلقات التاريخ السياسي في السودان الحديث؛ فإن الانتفاضة الشعبية إمكانية محتملة، ولا يمكن استبعادها كوسيلة لتغيير الحكومات العسكرية في السودان، لكنه سيدرك، أيضاً، أنها في الوقت الحالي تفتقد لمقومات قيامها، أي للقوى الفاعلة التي يمكن أن تدير معركة شعبية ناجحة، كما حدث في الفترات السابقة في ثورتي أكتوبر وأبريل، ونعني بها القوى المدنية السياسية والنقابية المؤهلة في ظروف تاريخية أن تضطلع بهذا الدور؛ لأن الانتفاضة الشعبية ليست أمنية يعاد تدوير مفرداتها في الخطاب السياسي المعارض. وحتى الآن، يمكننا أن نقول إن النجاح والغلبة في هذه المرحلة هي للإنقاذ التي استفادت من بناء التحالفات الجديدة على المستوى العالمي والتي تتبعها إعادة رسم أولويات السياسة الدولية للفاعلين في المجتمع الدولي، كما يتم تعريفهم في مبحث العلاقات الدولية، وتطلب ذلك الاعتماد على الحكومة السودانية في عدد من الملفات الإقليمية المهمة, ودون إلغاء تأثير ووجود المعارضة لكنها في هذه المرحلة تحوَّلت إلى حالة (منبرية مطلبية) بلا فعالية حقيقية في أن تكون قائدة فعلية لأي حراك جماهيري ناجح ومؤثر يتبنى خط الانتفاضة الشعبية.
من جانب آخر، فإن تلك الجماهير التي تعتمد عليها في التغيير ومقاومة السلطة قد أنتجت بدورها أدواتها الخاصة، ووسعت من دائرة تأثيرها المهم في إعلان وجودها، بل والتأثير على صناع القرار الإنقاذي، ساهمت بشكل كبير في ذلك الوسائط الحديثة التي خلقت ترابطات وتشابكات تفاعلية وحراك له صدى مؤثر أظهر فاعلين جدد، ليسوا هم أولئك القدامى الكلاسيكيين والمعتادين من منسوبي التنظيمات بأي حال, وهذا الحراك المستمر نجد أمثلة له عديدة في كثير من المواقف؛ وفي أحداث عديدة فرضت على السلطة التراجع وتوخي درب أكثر عقلانية يجنبها المواجهات أو (ركوب الرأس)، وكمثال لذلك فإن ما حدث من تأجيل قيل إنه تراجع من تعيين وزير في اللحظة الأخيرة قبل أداء مراسم القسم، لتقلد وزارة سيادية، فإن ما رشح بشكل مؤثر حول الكفاءة الأكاديمية لذلك الوزير لم تتم إثارته من أي جهة حزبية أو داخل المعارضة الرسمية، بل جاءت إثارته من (مجموعات الواتس والفيس بوك)، وربَّما يكون بين أولئك الذين تداولوا الخبر عناصر سياسية منظمة، لكن قطعاً لم يتم ذلك داخل قنواتهم الحزبية، بل تم تداوله في الوسائط، وكانت قيادات المنظمات السياسية والأحزاب النشطة في المعارضة، وحتى الحكومة نفسها مثلها مثل الآخرين، تتلقى الأخبار حول سيرة الوزير المؤجل تعيينه دون أن يكون لأي جهة سيادية، أمنية أو استخباراتية، دور في إعلام الحكومة بالسير المهنية والأكاديمية لمن تود تعيينهم. وهذا يقود إلى فهم نطاق التأثير الكبير للوسائط من حيث القيمة الخبرية التفاعلية شديدة التأثير.
ما يمكن قوله هنا للذي يعيش ويتابع الراهن السياسي في السودان يستشف بشكل واضح أن الإنقاذ فرضت رؤيتها التحاورية واقتنع المجتمع الدولي بذلك؛ بحيث أصبح الحديث عن الحكومة السودانية أمرا أشبه بالواجب الإعلامي لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يوجه للرأي العام أكثر من كونه حقيقة تتبناها الإدارة الأمريكية، من واقع سعيها إلى بناء تحالف استراتيجي مع السودان يضع في قمة أولوياته مكافحة الإرهاب والتطرف والمساهمة في إعادة استقرار بعض دول الجوار، ومن هنا نجحت الإنقاذ في تقديم نفسها، ليس كحكومة قوية فقط بل لديها الرغبة في الامتثال لتبني التوجهات الدولية في ما يتعلق بالملفات التي تؤخذ عليها مثل الحوار مع حاملي السلاح والمعارضة، هذا الأمر أدى أيضاً إلى نتائج أخرى على المستويين الخارجي والداخلي؛ فقد خففت كثيراً من حدة الدعوة لإسقاطها، ساهمت في ذلك النتائج الكارثية التي خلفتها موجة الربيع العربي في الإقليم؛ حيث أظهر أن تغيير الحكومات ليس كافياً وحده لبناء الديمقراطيات في دول مفخخة بالصراعات المذهبية والإثنية والقبلية.
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع نجاعة وصدقية ما تقوم به الإنقاذ في سعيها إلى تأسيس شراكة وطنية لا تستثني أي فريق من القوى السياسية، لكن لابد من وضع سؤال مهم: هل نجحت في ذلك، وهل ساهمت الظروف الإقليمية والدولية في أن تعزِّز كفاءتها الإقليمية؟ يقول بعض المراقبين إنها فرضت على الساحة إيقاعها الخاص المنسجم مع هذه المطلوبات الدولية والإقليمية التي ترغب في إغلاق باب الحرب نهائياً في السودان، حتى لا تنشغل هذه الحكومة المتعاونة في تقديم مساهمتها للمجتمع الدولي.
الآثار المهمة لذلك الاتجاه هي أنها خلَّفت لدى الحركة الشعبية في (كاودا) خلافات عميقة ضعضعت من تماسكها بشكل مؤثر، وانحسر مع ذلك سقف تطلعات الحركة وهي ترى أن التيار العام للسياسة الدولية يصب في دعم الإنقاذ وإجبار مناوئيها على التفاوض معها.
أما في دارفور؛ فقد ساهم هذا المناخ في تصعيد الاتجاهات الانتحارية للحركات، واندفاعها في مغامرات عسكرية مميتة، وهي تسعى من وراء ذلك لإعادة ضبط المؤشر من جديد باتجاه سابق الزخم الذي فجرته قضية دارفور؛ فاندفعت الحركات تقاتل وكأنها تسعى إلى إنعاش الخطاب القديم الذي يغذي الغرب من خياله السياسي، حين انفجرت الحرب ولقيت تعاطفا إعلاميا ضخما، سميت تلك الحرب هناك (إبادة جماعية من العرب ضد الأفارقة).
هذه المغامرات العسكرية تود أن تكون هذه الصورة حاضرة باستمرار لتعلن عن وجودها في ساحة النزاع، وكأنها راغبة في التقاط الصدى الدولي ليتحسس ويتذكر وجودها في ميدان المعارك. لكن المؤكد أنه لم يفت على أولئك المقاتلين أن (المواطن) في دارفور نفسه سئم من طول الحرب والاقتتال وترصدها التراجيدي لأحواله وحياته، دون أن يكون هناك أفق يحسم انتصار طرف على آخر.
كيفما كانت قيمة ما حدث هنالك للحركات الدارفورية وتجدد من حين إلى آخر اشتباكاتها الدامية مع الجيش وقوات الدعم السريع، تبقى النتيجة المفهومة سياسياً للمتابع أن هذه المعارك لا تعبر إلا عن اتجاه انتحاري لهذه الحركات، وهي تحاول أن تعيد بالقوة عقارب الساعة إلى الوراء وقت أن كانت دارفور وقضيتها تتسيد الإعلام العالمي وتشكل بنداً مهماً للمنظمات والحكومات، ترمي فيه بثقلها وعظيم تأثيرها في النزاع. أما الآن فإن المزاج العام في دارفور لم يعد متحمساً لهذه الحرب، ويبدو للقادم من هناك أن ثقافة الحرب نفسها فشلت في أن تستوطن في النفسية الدارفورية، لذا فإن ما يحدث هناك، وحتى بشكل ما داخل الحركة الشعبية مع الحذر من التعميم ومراعاة الاختلافات، لا يمكن تسميته إلا (قلق الأفول الأخير).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق