الأحد، 24 ديسمبر 2017

السفارة خارج العمارة!!

لنتصور – مجرد تصور- أن سفارة السودان في العاصمة الأميركية واشنطن أصدرت بياناً تطالب فيه الإدارة الأمريكية (بإلغاء) القانون الأمريكي الذي يمنح الفتاه الأميركية الحق عند البلوغ (17) عاماً في عدم الامتثال لأبيها أو والديها أو إلي أمرها، وحقها
في اصطحاب (صديقها) إلي المنزل دون اعتراض ولي أمرها.
من المؤكد أن أي مواطن أمريكي- دعك من السلطات الحكومية – سوف تعلو تقاطيع وجهه دهشة، ثم ما تلبث الدهشة أن تتحول إلي سخرية والسخرية نفسها ربما تفاعلت لتصبح غضبة، ليس لأن (جهة أجنبية) حشرت أنفها في تشريع أمريكي وتدخلت في شأن داخلي يخص المشروع الأمريكي، لا، ليس لذلك فحسب ولكن من المؤكد أن سبب الغضبة سوف يعود لي أن الأمر يتعلق بـ(الموروث الثقافي الأمريكي) و( التقاليد العريقة للشعب الأمريكي)! وهذه في واقع الأمر هي أزمة البيان المؤسف الصادر مؤخراً عن السفارة الأمريكية بالخرطوم والذي طلبت من خلاله بإلغاء المادة (152) من القانون السوداني الخاص بما يعرف بـ ارتداء الزى الفاضح!!
المؤسف حقاً في البيان الأمريكي المؤسف أنه خاض في صميم الموروث الثقافي السوداني خوض الخائضين، فعلاوة علي أن السفارة بدت غير ملمة قط بطبيعة الثقافة والقيم السودانية أو أنها ملمة بها ولكنها تمعن في المساس بها والتعريض بها، فإن البعثات الدبلوماسية عادة وفق القوانين المنظمة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول –(اتفاقية قينيا 1959) لا تخوض هكذا مباشرة في شأن تشريعي يرتبط بجذور أهل البلد ويمس تقاليدهم وعقائدهم!!
ليس من الحصافة والذكاء أن تبدو بعثة دبلوماسية أجنبية بمثابة (مستعمر ثقافي) للبلد الذي تمثل فيه بلدها!
فهي بهذا المسلك تصنع نفسها في مواجهة مباشرة، سيئة العواقب مع غالب شعب البلد، ولا نغالي أن قلنا انه حتي الذين يعارضون النظام القائم ويتمنون زواله وسقوطه لا يتحمسون لمثل هذه الممارسات الدبلوماسية السافرة، ما من سياسي نبيل وعاقل يرتخي أن يملي عليه الأجانب مقاييساً حضارية ومعايير خارجية في شأن ثقافي اجتماعي!
سفارة الولايات المتحدة في الخرطوم ليست (مركزاً ثقافياً دولياً) ينير الطريق لدول العالم ويعلمهم المعايير الدولية في القوانين والموروثات والأعراف والتقاليد.
ويعرف القائمين علي أمر السفارة أن الدبلوماسيين الأمريكيين المبتعثين لدي دولاً إسلامية معروفة يتعين عليهم أن كانوا من النساء (وضع غطاء الرأس) و(ارتداء زى محتشم) عند التقائهم كبار المسئولين لدي دولة المقر!!
يحدث ذلك في العاصمة السعودية  في الرياض، ويحدث في طهران واندونيسيا وفي كثير من الدول الإسلامية الشديدة الاعتداء بتقاليدها الإسلامية.
لماذا إذن يفعلون ذلك هناك وبشئ من الحياء الذي تحمر له وجوههم، بينما يخرجون (بيانات الإملاء) هنا في الخرطوم؟ من الواضح أن السفارة الأمريكية في الخرطوم تتلاعب بأغصان العقوبات وقائمة الدول الراعية للإرهاب  ظناً منها أن السودان قد افترش الأرض يستول المكرمات الأمريكية! أما الأكثر سؤاً من كل ذلك فيتمثل في الذين سارعوا إلي تبني وجهة نظر السفارة هؤلاء أمرهم عجيب، لأن قانون الزى الفاضح سواء تم إلغاؤه أو تعديله أو إبقاؤه، هو قانون سوداني- مهما ثار الجدل والحنق حوله – فهو مستمد من عمق الواقع الثقافي السوداني- لن تجد سودانياً واحداً حتي ولو قضي كل عمره يتشرب الثقافات الغربية يرضي بإبدال الثقافة السودانية بثقافات الآخرين! الآلاف ممن اضطرتهم الظروف للعيش والإقامة في الخارج عادة ما يسارعون إلي إعادة أبناءهم- خاصة في السن الخطرة- إلي السياج الوطني الآمن!
الجامعات السودانية تضج بالطلاب من هذه الشاكلة والمغزى واضح ومفهوم.
وعلي ذلك فإن صمت الخارجية السودانية علي الأقل في فورة الأزمة بلا شك هو صمت ذكي ولماح، إذ لا تملك السفارة أن تقوم (بتجديد) المطالبة كما تقوم بتجديد الجوازات الأمريكية للمواطنين الأميركيين المقيمين بالسودان، كما أن الحكومة السودانية التي قادت السودان لأكثر من (25) عاماً وسط أمواج العقوبات الهادرة المدمرة لن يعجزها تجديد ذات فترة التحمل القديمة، إذ أن السودانيين في واقع الأمر – لمن يعرفهم جيداً- لا يملكون رأسمالاً أغلي من كرامتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق