الثلاثاء، 5 يناير 2016

الشيخ و"الحوار"

تسابقت صحف الخرطوم بالأمس، لم تكد تشذ منها واحدة، تنقل دعوة الشيخ حسن الترابي لتشكيل حكومة انتقالية لمدة عامين برئاسة البشير، لم تكن في إفادات الترابي مواقف جديدة لم تكن معلومة، فهذه الآراء ما ظل الشيخ يستقيم عليها منذ بدء الحوار، كما أن تشخيصه لطبيعة الأزمة التي تُمسك بخناق البلاد وتحذيره من عواقبها المنذرة لمصائر البلاد والعباد من شواهد ما نراها واقعاً في بعض الدول العربية المنكوبة مما لا يختلف عليه اثنان، وإن تباينت وجهات النظر حول سبل السلامة منها.
من النادر أن تتفق الصحف على إظهار موقف واحد من قضايا الحوار، فحوار قاعة الصداقة المستمر منذ ثلاثة أشهر قلما أثار انتباه الصحف على هذا النحو، اللهم إلا من سابقة الموضوع نفسه عندما تم طرح رؤية المؤتمر الشعبي قبل بضعة أسابيع الداعية لتشكيل حكومة انتقالية، ما يعنيه هذا الاهتمام يعكس درجة انشغال الرأي العام بهذه المسألة تحديداً، سؤال ما بعد الحوار.
يتضح الآن أكثر أن المعضلة الأساسية التي تعترض مسار الحوار، أو بالأحرى بلوغ أهدافه الحقيقية بتجنيب السودان السيناريو الأسوأ، لا تتعلق بحتمية أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحول سلمي وهبوط آمن للمأزق السوداني، بالطبع مع تباين حول الشروط الموضوعية الواجب توفرها ليكون فعلاً منتجاً وليس تظاهرة إلهاء، بل تتعلق هذه المعضلة بغياب رؤية واضحة لنهاية مسار الحوار، أو ما يعرف بآليات تنفيذ مخرجات الحوار.
ليس سراً أن الجدل الحقيقي في الحوار الجاري يتعلق بهذه المسألة تحديداً، فمع كل النقاش الدائر ليست هناك نقاط اختلافات عميقة بين الأطراف، ولعل ما يجعل ذلك أمراً مفهوماً أن اتفاقية السلام الشامل حسمت على الأقل نظرياً الكثير من القضايا الخلافية، وأنتج الدستور الانتقالي قاعدة متينة للحقوق والواجبات والحريات الأساسية، وبالتالي لم تكن المشكلة أبداً غياب معرفة ما يجب عمله، ما هزم تلك الاستحقاقات الدستورية التحايل عليها وعدم الالتزام بتنفيذها.
إذاً المشكلة تتعلق بآلية نزاهة وجدية التنفيذ، ويبرز هنا صراع بين رؤيتين متناقضتين، هما الانتقال والاستمرار، رؤية الانتقال هي ما عبّر عنها الترابي مرة أخرى بتجديده لطرح حزبه لهذا المفهوم، وهو ما أثار ولا يزال ردود فعل رافضة بقوة في دوائر حزب المؤتمر الوطني لهذا الخيار، ويتبنى الحزب الحاكم في المقابل خيار الاستمرار الذي يعتبر أن الحوار مجرد وسيلة إعداد وثيقة تشكل قاعدة توافق سياسي لإعداد دستور دائم لا أكثر، دون أدنى مساس بـ"شرعية" مؤسسات السلطة الراهنة باعتبارها مخولة "انتخابياً" لعهدة تستمر حتى 2020.
هذا التباين الحاد بين الوطني والشعبي، وللمفارقة أن الحوار في نظر كثيرين نتاج تدبير بليل بينها، أكثر من مجرد اختلاف حول مسألة شكلية، بل يمس صميم مغزى عملية الحوار نفسها، فالدعوة للانتقال تعني أن النظام القائم وصل إلى طريق مسدود، ولم يعد بوسعه بأية معايير قدرة على الخروج من المأزق الذي ارتهن له البلاد، وأن سبيل النجاة الوحيد هو في مخرج آمن عبر عملية متدرجة بمشاركته لتحقيق تفكيك سلمي لبنية النظام لتجنب عواقب الاقتلاع عنوة.
إصرار الوطني على "الاستمرار" يعني أن الحوار بنظره لا علاقة له بأزمة وطنية شاملة لا يرى لها وجود أصلاً، وأنه على أحسن وسيلة لكسب الوقت ولتعزيز فرص التمسك بالسلطة لا التخلي عنها بغض النظر عن كلفتها. فماذا بقي من الحوار إذاً؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق