الأحد، 30 أكتوبر 2016

الجنائية والأفارقة.. المواجهة التاريخية الداوية!

من المؤكد أن الدول الغربية التى نشطت لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية واستهلت ذلك بميثاق روما 1998 الذي أفضى إلى قيام المحكمة رسمياً ومباشرتها لأعمالها في العام 2003 تشعر الآن وبعد مرور حوالي 13 عام بالصدمة جراء حركة الانسحاب الجماعي المثيرة للقلق التى تقوم بها دول القارة.
لكن من المؤكد أيضاً وبذات القدر إن هذه الدول الغربية تدرك في قرارة نفسها السبب الأساسي في هذا الانسحاب الجماعي وفى أيّ انسحابات أخرى لدول أخرى في المستقبل؛ فالدول الغربية تعلم أن المحكمة الجنائية اصبح اختصاصها (اختصاصاً أفريقياً)! وهي بذات هذا الصفة من المستحيل أن يُطلق عليها وصف محكمة الدولية.
 الدول الغربية مهما غالطت نفسها تدرك هذه العلة. ولكن دعونا نستجلي الأمر من زاوية أخرى، الزاوية التى من خلالها نظر قادة القارة لهذا الجسم العدلي السقيم الذي كاد أن يفسد مقتضيات العدالة الدولية التى تأسست على مدى قرون طويلة وفق الأعراف والتقاليد الدبلوماسية. إذ تقول دولة جنوب أفريقيا (وهي ثاني دولة) تقدم انسحابها من المحكمة بعد (بورندي)، تقول في الخطاب الموجهة من وزير العدل (مايكل ماسونا) (إن المحكمة تحد من قدرة جنوب أفريقيا على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالحصانة الدبلوماسية).
جوهانسبرج لخصت الأمر تلخيصاً قانونياً جديراً بالاحترام والأخذ في الاعتبار فالدول لديها التزام بموجب القانون الدولي ووفق منطق العلاقات الدولية باحترام سيادة وحصانات الدول الأخرى. محكمة الجنايات الدولية تخطت هذا الحاجز ودخلت في المنطقة المحظورة حيث تطلب من الدول التى يزورها مسئولين مطلوبين لدى لاهاي بانتهاك حصانتهم وسيادة دولهم واعتقال أولئك المسئولين!
 الأمر بهذه المثابة لا يتماشى مع منطق العلاقات الدولية ولا يتسق مع التزامات الدول بمعاهدات فينا للعلاقات الدبلوماسية 1959م. حتى الآن انسحبت -عبر إجراءات رسمية- دولتين من القارة الإفريقية تنفيذاً لقرار صادر عن قادة الاتحاد الإفريقي من كيجالي إلى جوهانسبرج.
أما إذا أردنا التمعن أكثر في مبررات الانسحاب الإفريقي فإنها من الوضوح بمكان حيث ينقلب السؤال إلى (لماذا تبقى دول القارة الإفريقية ضمن ميثاق روما ولا تنسحب منه)؟ بدلاً عن السؤال المعتاد (لماذا الانسحاب من ميثاق روما)؟ ولإيضاح الأمر أكثر بخلاف ما أوردته الدول المنسحبة التى أسست لانسحابها على تعارض التزاماتها الدولية مع الالتزامات التى تفرضها الجنائية الدولية، فإن هنالك في واقع الأمر أموراً أخرى أكثر دفعاً ومدعاة للانسحاب.
 أولاً، منذ إنشاء المحكمة رسمياً ومباشرتها لعملها في 2003 وحتى العام الحالي 2016 أي طوال 13 عاماً فإن المحكمة الجنائية الدولية تحركت في مواجهة 30 شخصاً إفريقيا ودارت تحركاتها حوالي 8 دول افريقية هي (الكنغو الديمقراطية، أفريقيا الوسطى، يوغندا، السودان، ساحل العاج، كينيا، ليبيا، مالي).
كيف لمحكمة خطيرة شهدت أحداثاً خطيرة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وشهدت اجتياح الولايات المتحدة وحلفاؤها للعراق وشهدت أحداثاً في روسيا وأوروبا يشيب لها الولدان؛ كيف لمحكمة أن تتغاضى عن كل تلك الأحداث الجسام إلى زلزلت العالم، وتركز فقط على 30 شخصية افريقية في 8 دول افريقية؟ هل يقبل العقل أن تكون كل جرائم العالم التى تنقلها الفضائيات موثقة وموسومة وثابتة بالأدلة المادية، جرائم خارج اختصاص المحكمة وينحصر اختصاصها فقط في القارة الأفريقية؟
ثانياً، اللعبة الأكثر خطورة وعسيرة على الفهم والاستيعاب وضع صلاحيات خطيرة في يد مجلس الأمن الدولي! حيث بإمكانه تحريك الإجراءات وإحالة أي دولة إلى المحكمة فقط وفقاً لمصالح الدول الأعضاء الخمس دائمي العضوية في المجلس، وكان واضحاً أن هذه الصلاحية وضعت لاغراض سياسية بدليل إن هذه الدولة الخمس لديها حق الاعتراض (الفيتو)! فإذا لم يكن هذا الأمر تسييساً للعدالة الدولية وإخضاعها لحسابات السياسية والمصالح فماذا يكون إذن؟
ثالثاً، على فرض أننا تجاوزنا عن تلك المثالب السالفة وهب أننا سلمنا  بالوضع المختل للنظام الدولي والخلل الواضح في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، لماذا تحرص دولة مثل الولايات المتحدة على استثناء لنفسها من الخضوع للمحكمة؟ ولماذا تحرص واشنطن على ملاحقة المطلوبين مع أنها رفضت التوقيع على ميثاق المحكمة؟
 من المؤكد أن المجتمع الدولي اخطأ خطأ العمر في إنشاء هذه المحكمة وعليه الآن أن يدفع ثمن خطأه القاتل بإنهيار محكمة الجنايات الدولية وانهيار العدالة الدولية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق