الأحد، 30 أكتوبر 2016

كيف نجح السودان في بناء إستراتيجية إسقاط لاهاي؟

الآن بدا واضحاً كيف خطط السودان -بحنكة ومهارة- لإدارة معركة سياسية  قانونية فاصلة مع محكمة الجنايات الدولية . ففي العالم 2005 وحين اصدر مجلس الأمن الدولي قراره الشهير رقم (1593) بإحالة الأوضاع في دارفور إلى محكمة الجنايات
الدولية كان الكثير من خصوم الخرطوم محلياً وإقليمياً ودولياً يعتبرون الأمر (نهاية قاصمة لنظام الخرطوم)!
هذه العبارة لم تغب عن لسان احد من خصوم الخرطوم، جميعهم اعتبروا أن مواجهة السودان لمنظمة دولية بقرار من مجلس الأمن مواجهة خاسرة. حتى أولئك الذين يحسبوا في عدد المحللين الموضوعيين غير المنحازين لأي طرف نصحوا السودان بألا يدخل في مواجهة مع المجتمع الدولي، وكان واضحاً أن السودان يدخل تجربة فريدة من نوعها.
 ومع أن الحكومة السودانية في ذلك الحين كانت قد أنجزت لتوها أفضل اتفاقية سلام أنهت أطول حرب في أفريقيا (نيفاشا 2005) إلا انه وإمعاناً في إذلال هذا البلد وإضعافه جاءت المكافأة من قبل الدول الكبرى التى رعت الاتفاقية (بإحالة أوضاعه إلى محكمة الجنايات الدولية)!
 وكما قلنا كانت التجربة غير مطروقة وصعبة ولم يكن السودان يدرك عمق المياه التى يخوض فيها. من الطبيعي إذن أن يضع السودان إستراتيجية طويلة المدى لمواجهة الأمر، فالقضية لم تكن قضية ملاحقة نظام حكم أو رئيس دولة أو مسئولين كبار؛ كانت قضية تتعلق بالسيادة الوطنية للدولة.
لم يكن أمراً سهلاً ترك السيادة الوطنية للدولة السودانية نهباً لقاطعي الطريق الدوليين والمتلاعبين بأجهزة ومنظمات العالم. وبالطبع هم أنفسهم وربما إلى عهد قريب لم يكونوا مدركين لما يمكن أن يفعله السودان في مواجهة الموقف الذي وضعوه فيه.
قوى دولية عديدة كانت تعتقد أن السودان سقط في بئر عميقة لا قرار لها، وهو الآن تحت رحمتها. المدعي العام للمحكمة الدولية السابق (لويس أوكامبو) أدلى بتصريحات عديدة بعد فراغه من التحقيقات وأصدر أمراً باعتقال الرئيس البشير أكد فيه إن الرئيس البشير -(قريباً جداً)- سيكون في قفص الاتهام في لاهاي!
 الرجل ورغم خبرته القانونية التى أتت به إلى المنصب الدولي الحساس أثبت يومها جهلاً مريعاً بثقافة الدول الإفريقية والعربية وعاداتها وتقاليدها، فأصبح هو نفسه -أي أوكامبو- محلاً للنقد والهجوم، فهو تخلى عن وقار وهيبة القضاء، وتخلى عن الحيادية المفترضة في رجل القضاء، وخاض فقي وحل السياسة والمصالح. ومضت السنوات تلو السنوات حتى انتهت ولايته ومضى إلى ذمة التاريخ ولم يتسن له جلب الرئيس البشير إلى مكتبه في لاهاي!
 أوكامبو كان يهزأ بنفسه وبالعالم حين خاض التجربة المؤسفة المتواضعة. السودان من جانبه ركز على الاتحاد الإفريقي ولم يكن الاتحاد الإفريقي رغم تباين رؤى ومصالح دوله ليأبى المنطق القويم الذي أطلقه السودان، فالمحكمة تطارد القادة الأفارقة. وحين نظر قادة القارة إلى ملفات المحكمة وجدوا الأمر صحيحاً، فهناك 30 متهماً إفريقياً من 8 دول افريقية وهم وحدهم حصيلة عمل المحكمة لفترة 13 عاماً!
 لم يكن سهلاً لأي قائد إفريقي أن يتقبل هذه الحقيقة المفزعة! ألا يوجد آخرون بخلاف الأفارقة؟ ألا تقع جرائم مروعة خطيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة و في غزة و في العراق و سوريا و في أوروبا؟ لماذا إفريقيا وحدها؟. ولماذا القادة الأفارقة وكبار المسئولين الأفارقة وحدهم.
تتالت الأسئلة، والسودان يقود إستراتيجية بطول نفس وبتأنِّى ومهارة امتدت لـ13 عاماً. في كل محفل إفريقي يقدم السودان الدليل على ما يقول، وفي كل قمة افريقية يكشف السودان عمق المؤامرة الدولية ويضعها أمام أخوته الأفارقة، وفي كل مرة تزداد القناعات وتتسع الرؤية، حتى تمكن تتويج الأمر بقرارات ما لبثت أن بدأت تتحول تدريجياً إلى تطبيق عملي بدأته اصغر دولة افريقية (بورندي) ثم تلتها أكبر دولة افريقية (جنوب أفريقيا) ليفاجأ المجتمع الدولي بأن السودان قد عمل على نسج وحياكة هذه الاستراتيجية الطويلة المدى لإفراغ محكمة الجنايات الدولية، وأحشائها من ما تحاول إلتهامه من اللحم الافريقيّ المُر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق