الأربعاء، 24 يناير 2018

غندور

لكم سعدت بالخبر المدهش الذي يقول إن وزير الخارجية بروف غندور باشر نشاطه من داخل وزارة الخارجية بل شهد اجتماعاً بالأمس ودّع فيه رئيس الجمهورية سفير السودان المبتعث إلى هولندا بما يعني أن ما امتلأت به الأسافير والقنوات الفضائية من أخبار حول إعفاء الرجل مجرد (كلام واتساب) فالحمد لله رب العالمين.
كانت ليلة حزينة والله العظيم تلك التي تلقيت فيها خبراً ينعى وزارة الخارجية، فقد كنت مقتنعاً بأن كارثة كبرى حلت بالسودان بقبول استقالة غندور الذي ظللت أقول بعد متابعة لصيقة لأقواله وأفعاله منذ أن تقلد منصب مساعد رئيس الجمهورية إننا لم نشهد وزير خارجية (كامل الدسم) مثله منذ عملاقنا الفريد والشاعر الكبير محمد أحمد محجوب ، رجل مؤتمر القمة العربي أو قل مؤتمر اللاءات الثلاثة الذي انعقد في الخرطوم عقب هزيمة حزيران عام 1967 والذي تمكن فيه المحجوب من رأب الصدع بين الملك فيصل والرئيس عبدالناصر ومن جمع العرب في الخرطوم وبعث روح التحدي والصمود من جديد في الأمة المنكسرة والمهزومة.
المجال لا يتسع للاستفاضة في سرد صولات وجولات المحجوب في منابر الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية متحدثاً عن العرب بلغته الشاعرية ولسانه المبين وصوته الجهوري، ولكم حملت صور الفيديو المتداولة هذه الأيام في الوسائط انبهار الملوك والرؤساء العرب بالرجل وهو يقف أمامهم كالطود الأشم وهم جلوس يحدقون فيه وينظرون كما ينظر قيس لليلى.
لماذا ظلم التاريخ المحجوب الذي رفع علم الاستقلال مع الأزهري ؟ هل لأنه أزيح ليحتل ابن الأكرمين مكانه رئيساً للوزراء يوم بلوغه سن الثلاثين؟! لماذا لم يخلد اسمه بشارع أو بجامعة أو حتى بقاعة في إحدى القرى الخاملة الذكر في أرياف بلادي؟!
أعود للمحجوب الجديد - بروف غندور - الذي تحس بالفخر عندما يقف إلى جانبه نظير له من الدول العربية - وزير خارجية مصر مثلا - في مؤتمر صحفي فيبدو كالجرذ أمام غندور بحضوره الطاغي وهو يجيب بلسان فصيح عن الأسئلة أو يتحدث في لقاء مع إحدى القنوات الفضائية العربية كالجزيرة أو القناة الروسية أو غيرهما.
خلال الدورة الأخيرة للمجلس الوطني التي شاركت فيها ، قلما يحظى غيره من الوزراء بتصفيق جميع النواب عقب تقديم إجاباته عن أسئلة الأعضاء ولا أحد غيره كان يقنع الجميع بغض النظر عن مواقفهم السياسية.
أذكر أنني قلت في تعليقي في إحدى الجلسات في معرض تأييدي لبيان غندور إن تعيينه جاء متأخراً ولكن أن تأتي متأخراً خير من ألّا تأتي.
قبل وزارة الخارجية كان غندور على رأس التفاوض مع المتمردين من خلال منصبه كمساعد لرئيس الجمهورية ومعلوم أني مصاب بحساسية حادة مع كل المفاوضين منذ مخازي أولاد نيفاشا الذين فعلوا بنا وبالسودان الأفاعيل وكنت أرقب التفاوض والمفاوضين ، وما يفعلون أو يقولون ، كظلهم وفعلت ذات الشيء مع غندور ورأيت والله العظيم ما لم أره في أي مفاوض أخر فقد لعب بالرويبضة وألجأه إلى الحائط وألحق به هزيمة نكراء بالرغم من أن غندور كان مثقلاً بتبعات و(جلايط) أولاد نيفاشا مثل (اتفاق نافع عقار) وغيره من نقاط الضعف التي كان عرمان والآلية الأفريقية بل ومجلس الأمن يستغلونها لإضعاف الموقف التفاوضي لوفد الحكومة ولكن غندور أوتي من الذكاء والحنكة والهدوء والدبلوماسية ما كان يحيل به الهزائم إلى انتصارات.
استطيع أن أكتب كثيراً عن غندور الذي فجعت في ذلك اليوم وتلبستني حالة من الغضب تلفظت فيها في الأسافير بكلام عنيف أملاه يأس قاتل بعد أن فقدت وقتها الأمل تماماً في المستقبل !!!
لماذا ؟!
لأني لم أقتنع بأننا نعاني من ضعف في آليات صناعة القرار السياسي كما شعرت في ذلك اليوم سيما بعد أن علمت بأسباب الاستقالة وما رشح من أخبار (كاذبة) عن قبولها بدون أدنى تردد في تجاهل غريب وعجيب ومضحك ومبك لوقع ذلك القرار وتأثيره السالب بل والقاتل على السياسة الخارجية للسودان في وقت تواجه فيه البلاد تحديات جسام تحتاج إلى رجل في كفاءة غندور .
غندور ليس بلا عيوب شأنه شأن كل البشر وأعجب ممن يطلب الكمال في غندور وينسى أن كل البشر خطاؤون - هذا بافتراض أن غندور قد أخطأ - وأن الكمال وعدم الخطأ لم يؤت إلا لله وحده سبحانه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق