الأحد، 20 يناير 2019

التداول السلمي للسلطة -أياً كانت المثالب- المخرج الوحيد!

من المؤسف جدا ان يعتقد بعض الساسة المعارضين في السودان بعد كل التغيرات التي طالت هذا البلد المثخن بالجراح ان بالإمكان تكرار نماذج ثورية قديمة طواها الماضي و تجاوزتها السنوات في  اكتوبر 1964 و  ابريل 1985. المفارقة بين ذلك الماضي التاريخي و الحاضرة القائم لا يمكن مقايسته، بل ربما استحال عمليا إجراء المقارنة او المقابلة من الأساس.
الأوضاع القائمة ألان في السودان هي أوضاع سياسية ناتجة عن عملية تراضي وطني مهما قال البعض عنها، فهي على الأقل ليست أوضاع ذات طابع شمولي او عسكري بحال من الأحوال، و يعلم خبراء الاستراتيجيات ان الأوضاع الحالية في السودان جاءت نتاج تسوية سياسية شاملة حازت رضا كل القوى السياسية والقوى المسلحة بدأت على الاقل عقب اتفاقية السلام الشاملة في نيفاشا 2005 ولا ينكر أعتى مكابر ان الدستور الانتقالي 2005 الساري حالياً وتجاوز عمره الـ13 عاماً هو نتاج إرادة سياسية سودانية، توافقت في البرلمان عام 2005 وأقرت فترة الانتقالية التى بلغت 6 سنوات وقوانين عديدة أسست لما يعرف في حينها بالتحول الديمقراطي، قوانين الاحزاب و قوانين الصحافة، و الانتخابات العامة وعشرات القوانين التى أشار إليها الدستور الانتقالي، و الذي وصف من قبل كل القوى السودانية حاكمة ومعارضة بأنه الأفضل و الأقرب إلى وجدان الكافة.
بل ان اكبر دليل مادي على القبول السياسية الذي يحظى به الدستور الانتقالي انه نال أطول فترة سريان في تاريخ السودان منذ نيله استقلاله، وهو الدستور الوحيد ألان في السودان الذي جرت في ظله عمليتين انتخابيتين احدهما في 2010 و الثانية في 2015 وينتظر إجراء العملية الانتخابية الثالثة في 2020 إن لم يتم حتى ذلك الحين إنشاء دستور دائم جديد.
ثم العملية السلمية التى تأسست وفق اتفاق نيفاشا 2005 تلتها عمليات سلمية أخرى: الشرق 2007م، ابوجا 2006م، الدوحة 2012م، و توجت كل هذه العملية السلمية بمشروع وطني ضخم هو الأخر ظل وما يزال مهوى قلوب القوى السياسية السودانية و هو مشروع الحوار الوطني  2014 المشروع الذي أتاح – للمرة الأولى في التاريخ السياسي الحديث للسودان – جلوس كل القوى السودانية والفئات المهنية والاجتماعية و التحاور بأوراق ليست من إملاء احد او جهة، في نقاش حر، حول مائدة مستديرة دون شروط مسبقة، حضر من اجل هذا الحوار أكثر من 20 حركة مسلحة ومعارضة في الخارج مطلوبين جنائياً داخل السودان ولم يعتقلهم احد او يطاردهم احد، قالوا ما في جعبتهم ثم مضوا إلى حال سبيلهم، ثم خرجوا بمخرجات فاقت الـ900 هي ألان قيد التنفيذ.
مخرجات مشروع الحوار هي نفسها التى جاءت بالحكومة الوفاقية الحالية المكونة من عدد من الاحزاب والقوى السياسية و الحركات المسلحة . وبرنامج حكومة الوفاق الوطني هو نفسه مخرجات الحوار الوطني وعلى ذلك فان هذه المكتسبات الوطنية لا يمكن بحال من الأحوال القفز عليها او اعتبارها (مجردة نظام شمولي) يستحق الإسقاط! لا يمكن لسياسي عاقل و موضوعي ان يزعم  ان السودانيين الذين صبروا على بناء الدولة السودانية طوال العقود الثلاثة الماضية وأسهموا في وقف الحرب في الجنوب والشرق والنيل الأزرق ودارفور وأسسوا مشروع الحوار الوطني الذي بات أنموذج سياسي يحتذى في دول الجوار الإقليمي، هم ألان يريدون إسقاط أنفسهم وتغيير دولتهم عبر احتجاجات مستغلة سياسياً تجري باتجاه المجهول.
القوى السياسية المعارضة التى تتوارى خجلاً و تحرك من وراء ستار هذه الاحتجاجات و ترتكب خطيئة تعطيل وعرقلة بناء الدولة وتدفع الأمور إلى الهاوية وما يسمى بتجمع المهنيين المتواري خوفاً وخجلا كيان هلامي يقتضي الشجاعة السياسية و النخوة الوطنية ان يظهر بوجهه السافر على الساحة، فطالما ان العمل الذي يقوده يعتقد انه عمل وطني فيه مصلحة شعب السودان فما الحاجة للتخفي و المداراة خلف الشعارات؟
إن الدولة السودانية قد تأسست على هدى من الحوارات و النقاشات الطويلة، و العمليات السلمية و التفاهمات بين القوى السودانية المختلفة وراكمت هذه الحوارات ذخيرة إستراتيجية عرف عبرها الكل كيف يمكن إدارة الدولة لصالح المستقبل، وقد تأسس التداول السلمي للسلطة عبر دورتين من الانتخابات خاضتها بعض القوى المعارضة ولم توفق؛ وتحالف بعضها مع بعض القوى وأحرز نجاحات، وهي تجربة متدرجة تحتاج المزيد من الوقت و الصبر ولهذا فان الذين يطلقون الآن أحلام اكتوبر 1964 وابريل 1985 عليهم ان يتدبروا التاريخ وسطوره جيداً، الفارق جوهري وأدوات الصراع السياسية تجاوزت الإسقاط و الهبّات ودعم النشطاء. الدولة السودانية أقوى من كل القوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق