الاثنين، 30 مايو 2016

من مظاهر المغالاة والترف السياسي في السودان

من الممكن القول بدون التجني على أي طرف، إن القوى السياسية السودانية تعيش قدراً وافراً وواضحاً من ما يمكن أن نطلق عليه (ترفاً سياسياً) ! وقبل أن يتعجل البعض أو بيدي دهشته حيال هذا التوصيف السياسي الواقعي- بصرف النظر عن الرأي
في السلطة الحاكمة- فإن مشروع الحوار الوطني ومهما كانت مآخذ البعض عليه والذي دخل عامه الثاني واحد من أهم مظاهر الترف السياسي الذي نتحدث عنه.
وحين قول ترف سياسي فإننا بطيعة الحال نعني أن هناك مساحة كبيرة للحراك السياسي ومعها منافذ مناسبة لتجديد الهواء في الفضاء السياسي السوداني ولكن القوى السياسية لا تقر بذلك وتطلب بإصرار بأمور أخرى. وإذا جاز لنا تعداد بعض مظاهر ما أطلقنا عليه ترفاً سياسياً فإننا يمكن أن تختصر هذه المظاهر في عدة أمور:
 أولاً، هامش الحريات المتاح والمفقود في كل محيطنا الإقليمي. إذن الصعب ولا نقول من المستحيل أن تجد العدد المبذول من القوى السياسية والأحزاب المصرح لها رسمياً وبموجب قانون لممارسة أنشطتها السياسية. السودان كما هو معروف فيه حتى الآن قرابة الـ90 حزباً سياسياً مسجلاً والأدهى, أمرّ أن العديد من هذه القوى السياسية الناشطة ومسجلة رسمياً لها علاقات خفية أو حتى معلنة بقوى مسلحة ولا نود التفصيل فى هذا الصدد لأن هذه الأمر مفروغ منه. أوليس إذن ترفاً سياسياً أن يكون في الساحة السياسية هذا الكم الكبير من الاحزاب و المرتبطة بقوى مسلحة، ومع ذلك لها حقها -بموجب القانون- في الممارسة السياسية والانتخابية وتوجيه النقد.
ثانياً، القوى المسلحة التى ماتزال تقاتل الحكومة السودانية حتى الآن متاح أمامها إيصال صوتها للساحة السياسية عبر المخاطبات الهاتفية فى ندوات عامة سواء داخل الجامعات او في دور الاحزاب أو الساحات العامة. حدث هذا منذ سنوات وما يزال يحدث حتى بدا البعض ينادي بالاتجاه لتقنين العمل السياسي للطلاب في الجامعات حيث تنشط منظمات سياسية طلابية هي في حقيقتها أذرع لحركات مسلحة والمدهش في هذا الصدد ان يسقط قتلى من الجيش الحكومي والقوات النظامية في ميادين القتال، وفي الوقت نفسه (يفرح) بعض منسوبي هذه الحركات داخل الجامعات بسقوط هؤلاء القتلى بما يثير حنق الآخرين!
وضع كهذا لا يمكن أن يحدث في أي بلد آخر. نشطاء سياسيين يمارسون النشاط السياسي ظاهراً والنشاط المسلح أو الداعم له باطناً؟ أي ترف سياسي أكثر من ذلك؟
رابعاً، إطلاق مشروع الحوار الوطني نفسه، حوار مفتوح لمن يشاء حتى ولو كان يحمل السلاح أو يقيم بالخارج، تم السماح له بحضور الحوار بإبداء رأيه ثم العودة لميدان القتال من جديد. حدث هذا أيضاً وهو موثق صوتاً وصورة وفى محاضر الحوار بحيث يستحيل على أي طرف أن ينكره أو يقلل منه.
خامساً، الحق في إنشاء كيان ثقافي أو مجتمعي أو ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني حق مكفول ومتاح للدرجة التي معها أنشأت كيانات هي في جوهرها ذات أبعاد وجذور جهوية وقبلية ومع ذلك فهي تنشط علناً ولا يحظر نشاطها، ولسنا في حاجة لأمثلة ولكن نذكر فقط بأن حزب مؤتمر البجا -على سيل المثال- حزب مسجل ومرتبط بإتفاق سلام ويعمل قادته داخل أطر الحكومة و المعارضة و قس على ذلك.
صحيح أن مثل هذه الممارسات ذات الأبعاد الجهوية تؤخر من قضية تمتين الوحدة الوطنية ولكن في نهاية الأمر فهي دلالة على الحرية المكفولة -عرفاً وقانوناً- لممارسة الأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية.
سادساً، حرية الصحافة، هي الأخرى نادرة في المحيط الإقليمي، وهي الآن في السودان سواء من حيث نصوص القانون (قانون الصحافة 2009) أو من حيث الممارسة الفعلية (عدد للصحف الذي تجاوزالـ50 صحيفة) أو من حيث التطوير المتطلع اليه في دلالة واضحة على أن السودان يمضي بخطى حثيثة وثابتة -حتى ولو كانت بطيئة نسبياً- نحو ممارسة سياسية ديمقراطية.
 إذن مجمل القول أن السودان و أن لم يكن في مستوى طموح البعض فهو على اية حال فيه قدر من ما أطلقنا عليه الترف السياسي، فأنت لا يمكن أن تجد بلداً واحداً في محيطنا العربي أو الإقليمي يعاني من حروب على أطرافه لعشرات السنين ويعاني من عقوبات اقتصادية أمريكية وغربية أحادية الجانب منذ أكثر من 20 عاماً، ويعاني من مؤامرات خارجية (جماعات ضغط ومنظمات لها أجنداتها)، ويعاني من قوى معارضة لا تفرق بين الحكومة كنظام والدولة كوطن، ومع ذلك تتاح في هذه الحريات السياسية والصحفية والشخصية، ويدار فيه حوار له آلية ليست حكومية ومخرجات الحوار قابلة للتنفيذ، ويدار فيه تفاوض مع قوى مسلحة متاح أمامها حل مشكلاتها إذا رغبت، فإن لم يكن كله بمثابة ترف سياسي مجحود ومنكور القيمة من البعض، فماذا يكون إذن؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق