الأحد، 3 أبريل 2016

أساطير التسويات السياسية في السودان

كما هو متوقع انقضت مدة الأسبوع التي أمهلتها رئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي الدكتورة إنكوسازانا دالميني زوما بلا استجابة من أطراف مفاوضات أديس أبابا الأربعة، وهي حركتا دارفور المسلحتان والحركة الشعبية وحزب الأمة، للتراجع عن رفضها، أو بالأحرى تحفظها، على أحدث نسخة خريطة طريق ابتدعها مواطنها الجنوب إفريقي الرئيس السابق ثابو إمبيكي، رئيس الآلية الإفريقية الرفيعة المستوى للسودان وجنوب السودان، في محاولة أخرى في سلسلة المفاوضات الماراثونية التي ظل يتعهدها للملمة أطراف الصراع السوداني على تسوية تنهي حالة الحروب وعدم الاستقرار والأزمة الإنسانية التي تحاصر البلاد المنكوبة بنزاع مستدام على السلطة والثروة.
توقيع الحكومة السودانية من طرف واحد على خريطة الطريق الأحدث أدخل عليها الكثير من البهجة والسرور، ولم تخف تعجلها للاحتفال بنصر تفاوضي مرده بالدرجة الأولى أن الفرقاء لم يشاركوها التوقيع على الوثيقة، فأهدوها بذلك فرصة الخروج للمرة الأولى، منذ تجدد النزاع في الجنوب الجديد في خواتيم الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل، من مربع الرافض لجهود التسوية السلمية التي يبذلها الوسطاء الأفارقة إلى آفاق الاستعداد للتعاطي مع هذه المحاولات، ومن المؤكد أن هذه النقلة في الموقف الحكومي التي شجعت إمبيكي على المضي قدماً في خريطته الجديدة لم تحدث مجاناً، بل تعيّن على الخرطوم أن تقدم تنازلات مهمة من مواقفها السابقة.
ولعل التنازل الجوهري من الخرطوم الذي التقطه كبير الوسطاء الإفريقي ونسج على منواله وثيقته الجديدة هو تراجع الخرطوم المهم فيما يتعلق بتمسّكها السابق بعدم الخوض في أي تفاوض مع الحركات المسلحة حول عملية ترتيبات لوقف الأعمال العدائية، بمعنى الاقتصار على إبرام هدنة أثناء التفاوض لبحث القضايا الإنسانية والسياسية، وظلت تتشدد في الإصرار على أن المدخل لأي تفاوض يبدأ بوقف إطلاق النار في عملية شاملة لإنهاء الحرب بترتيباتها كاملة بما في ذلك نزع سلاح من الجماعات المعارضة.
وبذا أصبحت الحكومة السودانية للمرة الأولى مستعدة للتفاهم حول عملية تفاوضية تبدأ بترتيبات للهدنة باتجاه تفاوضي سياسي متزامن يفضي للوصول إلى هدف وقف الحرب وبالتالي وقف إطلاق النار، من المؤكد أن هذا التحول الجديد كلياً في موقف الخرطوم، وعلى أية حال ليست واضحة الأسباب الكامنة وراء هذا التطور، ولكن ذلك كان كافياً ليعلن الوسيط إمبيكي أن الخرطوم ظلت ترفض لسنوات الانخراط في محادثات سياسية قبل التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وأنها الآن باتت مستعدة للدخول في تفاوض بدون هذا الشرط المسبق.
وفي تسويقه لخريطته الجديدة يقول إمبيكي إن ما تم الاتفاق عليه مع الحكومة السودانية هو ما وصفه بـ "هدنة متزامنة"، ومضى شارحاً "بينما نحن نتقدم لإنهاء الحرب، نتحرك في الوقت نفسه في المحادثات السياسية، ولكن لن يُطلب من أحد أن يلقي سلاحه قبل أن يعرف نتيجة التسوية السياسية كيف ستكون". معتبراً أن دعوته للأطراف الممتنعة عن التوقيع لفعل ذلك هو أن الحكومة السودانية والحركة الشعبية شمال ظلا يتفاوضان حول هذه المسألة تحديداً طوال السنوات الخمس الماضية، وتقديره أن خريطة الطريق الجديد مثار الجدل من شأنها أن تفتح الطريق لإنهاء الحرب والوصول للمدنيين في المناطق المتأثرة بالحروب.
من هذا السياق فمن المستبعد أن يكون تحفظ الأطراف الأربعة على التوقيع على خريطة الطريق الجديدة على علاقة بهذا الجزء من خطة إمبيكي الجديدة، فهذا على الأقل كان مطلب الحركات المسلحة لا سيما الحركة الشعبية، وقد قدمت فيها الخرطوم تنازلاً واضح المعالم، ما أثار الجدل للمفارقة لا يتعلق بالجوانب العسكرية من الصراع والذي ظل سائداً لسنين، بل يتعلق بالجانب السياسي على خلفية الموقف من مبادرة "الحوار الوطني" وتطوراتها. ذلك أن المعارضة لا تزال متمسّكة بخريطة الطريق السابقة التي تبناها مجلس الأمن والسلم الإفريقي في بيانه 456 الصادر في سبتمبر 2014، وحصل على مباركة مجلس الأمن الدولي، ثم بيانه الآخر 539.
وجوهر الجدل هنا يقوم على موقفين فالحكومة السودانية ترى أن "الحوار الوطني" غادر محطة الانتظار ووصل بالفعل إلى مرحلة تقديم مخرجاته في عملية جرت في الخرطوم "بمن حضر". في مقابل موقف المعارض غير المعترفة بأن هذا تحديداً ليس هو الحوار الذي يعنيها، وأنه مجرد تمرين داخلي في صفوف السلطة الحاكمة، وبالتالي فهي تعتبر أن أي حوار لا يبدأ من نقطة اللقاء التحضيري الذي تبنته خريطة طريق مجلس الأمن الإفريقي قبل ثمانية عشر شهراً والذي دعي إليه في أديس أبابا بغرض الاتفاق على الإجراءات والترتيبات المتعلقة بتهيئة المناخ، قبل الانتقال إلى الخرطوم للدخول في محادثات حول موضوعات الحوار.
ما حدث أن الخرطوم رفضت الخضوع لخريطة الطريق الإفريقية الأولى وشرط اللقاء التحضيري في أديس أبابا، بحجة أنه لن توافق على إجراء حوار خارج السودان، وتمسّكت بذلك حتى شرعت فعلياً بعد عام كامل من صدور بيان مجلس السلم والأمن الإفريقي في الدخول مباشرة لإطلاق عملية "الحوار الوطني" لمن يرغب في المشاركة. وعندما التأمت الأسبوع الماضي آخر جولات التفاوض اعتبرت الخرطوم أن مسألة اللقاء التحضيري الذي تتمسك به المعارضة تجاوزه الزمن.
بيد أن إمبيكي نجح مع ذلك في انتزاع تنازل آخر مهم من الحكومة السودانية بأن "الحوار الوطني" الذي جرى في الخرطوم "ليس شاملاً بما فيه الكفاية"، بالطبع لمقاطعة أطراف مهمة من المعارضة الداخلية والخارجية لهذه العملية، وربما لهذا السبب أرجأت الحكومة السودانية على الرغم من انتهاء جلسات "الحوار" رسمياً منذ أواسط الشهر الماضي، إكمال عملية تبني مخرجاته عبر آلية الجمعية العمومية للأطراف المشاركة فيه، وأبقت الباب مفتوحاً لمجال مناورة بإدخال القوى التي قاطعته في مرحلته الأخيرة.
وفي محاولة لمقايضة المواقف بين الطرفين، حاول إمبيكي الجمع بين عملية الحوار الوطني في الخرطوم، ودعوة المعارضة لمؤتمر دستوري سوداني، مطلقاً مسمى جديداً لمجمل العملية "الحوار الوطني السوداني الشامل"، حيث أراد أن ينتزع من المعارضة في خريطته الجديدة اعترافاً بأن الحوار الوطني الذي دعا له الرئيس عمر البشير بدأ في الخرطوم في أكتوبر الماضي، مقابل إقرار الطرف الحكومي بأن هذا "الحوار الوطني" ليس شاملاً بما فيه الكفاية لعدم مشاركة الأطراف الأربعة المدعوة للتوقيع على خريطة الطريق، ولذلك فإن ممثلي آلية السبعتين سيجتمعون بهذه الأطراف في أديس أباباً للبحث في خطوات تحقيق هذه "الشمولية" التي اتفقت الأطراف على اعتبارها مسألة حيوية، وأن مسألة مستقبل السودان ستحسم من خلال عملية حوار شاملة بمشاركة هذه الأطراف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق